فصل: تفسير الآيات رقم (118- 123)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير الخازن المسمى بـ «لباب التأويل في معاني التنزيل» ***


تفسير الآيات رقم ‏[‏118- 123‏]‏

‏{‏وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا مَا قَصَصْنَا عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ ‏(‏118‏)‏ ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُوا السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ ‏(‏119‏)‏ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ‏(‏120‏)‏ شَاكِرًا لِأَنْعُمِهِ اجْتَبَاهُ وَهَدَاهُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ‏(‏121‏)‏ وَآَتَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَإِنَّهُ فِي الْآَخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ ‏(‏122‏)‏ ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ‏(‏123‏)‏‏}‏

‏{‏وعلى الذين هادوا‏}‏ يعني اليهود ‏{‏حرمنا ما قصصنا عليك من قبل‏}‏ يعني ما سبق ذكره وبيانه في سورة الأنعام وهو قوله تعالى ‏{‏وعلى الذين هادوا حرمنا كل ذي ظفر‏}‏ الآية ‏{‏وما ظلمناهم‏}‏ يعني بتحريم ذلك عليهم ‏{‏ولكن كانوا أنفسهم يظلمون‏}‏ يعني إنما حرمنا عليهم ما حرمنا بسبب بغيهم وظلمهم أنفسهم ونظيره قوله تعالى فبظلم من الذين هادوا حرمنا عليهم طيبات أحلت لهم‏.‏ وقوله تعالى ‏{‏ثم إن ربك للذين عملوا السوء بجهالة‏}‏ المقصود من هذه الآية بيان فضل الله وكرمه وسعة مغفرته ورحمته، لأن السوء لفظ جامع لكل فعل قبيح فيدخل تحته الكفر وسائر المعاصي وكل ما لا ينبغي وكل من عمل السوء فإنما يفعله بجهالة، لأن العاقل لا يرضى بفعل القبيح فمن صدر عنه فعل قبيح من كفر أو معصية، فإنما يصدر عنه بسبب جهله إما لجهله بقدر ما يترتب عليه من العقاب أو لجهله بقدر من يعصيه، فثبت بهذا أن فعل السوء إنما يفعل بجهالة ثم إن الله تعالى وعد من عمل سوءاً بجهالة ثم تاب، وأصلح العمل في المستقبل أن يتوب عليه ويرحمه وهو قوله تعالى ثم تابوا من بعد ذلك، يعني من بعد عمل ذلك السوء ‏{‏وأصلحوا‏}‏ يعني أصلحوا العمل في المستقبل، وقيل معنى الإصلاح الاستقامة على التوبة ‏{‏إن ربك من بعدها‏}‏ يعني من بعد عمل السوء بالجهالة والتوبة منه ‏{‏لغفور‏}‏ يعني لمن تاب وآمن ‏{‏رحيم‏}‏ يعني بجميع المؤمنين والتائبين‏.‏ قوله سبحانه وتعالى ‏{‏إن إبراهيم كان أمة‏}‏ حكى ابن الجوزي عن ابن الأنباري أنه قال‏:‏ هذا مثل قول العرب‏:‏ فلان رحمة وفلان علامة ونسابة يقصدون بهذا التأنيث قصد التناهي في المعنى الذي يصفونه به‏.‏ والعرب توقع الأسماء المبهمة على الجماعة وعلى الواحد كقوله تبارك وتعالى ‏{‏فنادته الملائكة‏}‏ وإنما ناداه جبريل وحده، وإنما سمي إبراهيم صلى الله عليه وسلم أمة لأنه اجتمع فيه من صفات الكمال وصفات الخير الأخلاق الحميدة ما اجتمع في أمة‏.‏ ومنه قول الشاعر‏:‏

ليس على الله بمستنكر *** أن يجمع العالم في واحد

ثم للمفسرين في معنى اللفظة أقوال أحدها‏:‏ قول ابن مسعود‏:‏ الأمة معلم الخير يعني أنه كان معلماً للخير يأتّم به أهل الدنيا‏.‏ والثاني قال مجاهد‏:‏ إنه كان مؤمناً وحده والناس كلهم كفار فلهذا المعنى كان أمة واحدة ومنه قوله صلى الله عليه وسلم في زيد بن عمرو بن نفيل «يبعثه الله أمة واحدة» وإنما قال فيه المقالة لأنه كان فارق الجاهلية وما كانوا عليه من عبادة الأصنام‏.‏ والثالث قال قتادة‏:‏ ليس من أهل دين إلا وهم يتلونه ويرضونه، وقيل‏:‏ الأمة فعلة بمعنى مفعولة، وهو الذي يؤتم به وكان إبراهيم عليه السلام إماماً يقتدى به دليله قوله سبحانه وتعالى

‏{‏إني جاعلك للناس إماماً‏}‏ وقيل إنه عليه السلام هو السبب الذي لأجله جعلت أمته ومن تبعه ممتازين عمن سواهم بالتوحيد لله والدين الحق وهو من باب إطلاق المسبب على السبب، وقيل‏:‏ إنما سمي إبراهيم عليه السلام أمة لأنه قام مقام أمة في عبادة الله ‏{‏قانتاً لله‏}‏ يعني مطيعاً لله وقيل هو القائم بأوامر الله ‏{‏حنيفاً‏}‏ مسلماً يعني مقيماً على دين الإسلام لا يميل عنه ولا يزول‏.‏ وهو أو من اختتن وضحّى، وأقام مناسك الحج ‏{‏ولم يك من المشركين‏}‏ يعني أنه عليه السلام كان من الموحدين المخلصين من صغره إلى كبره ‏{‏شاكراً لأنعمه‏}‏ يعني أنه كان شاكراً لله على أنعمه التي أنعم بها عليه ‏{‏اجتباه‏}‏ أي اختاره لنبوته واصفطاه لخلته ‏{‏وهداه إلى صراط مستقيم‏}‏ يعني هداه إلى دين الإسلام لأنه الصراط المستقيم والدين القويم ‏{‏وآتيناه في الدنيا حسنة‏}‏ يعني الرسالة والخلة‏.‏ وقيل‏:‏ هي لسان الصدق والثناء الحسن والقبول العام في جميع الأمم فإن الله حببه إلى جميع خلقه فكل أهل الأديان يتلونه المسلمون واليهود والنصارى، ومشركو العرب وغيرهم، وقيل‏:‏ هو قول المصلي في التشهد‏:‏ اللهم صلى على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم‏.‏ وقيل إنه آتاه أولاداً أبراراً على الكبر ‏{‏وإنه في الآخرة لمن الصالحين‏}‏ يعني في أعلى مقامات الصالحين في الجنة‏.‏ وقيل‏:‏ معناه وإنه في الآخرة لمن الصالحين يعني الأنبياء في الجنة فتكون من بمعنى مع ولما وصف الله عز وجل إبراهيم عليه السلام بهذه الصفات الشريفة العالية، أمر الله سبحانه وتعالى نبيه محمداً صلى الله عليه سلم باتباعه فقال تعالى ‏{‏ثم أوحينا إليك أن اتبع ملة إبراهيم‏}‏ يعني دينه وما كان عليه من الشريعة والتوحيد‏.‏ قال أهل الأصول‏:‏ كان النبي صلى الله عليه وسلم مأموراً بشريعة إبراهيم إلا ما نسخ منها وما لم ينسخ صار شرعاً له، وقال أبو جعفر الطبري أمره باتباعه في التبري من الأوثان والتدين بدين الإسلام وهو قوله ‏{‏حنيفاً‏}‏ مسلماً ‏{‏وما كان من المشركين‏}‏ تقدم تفسيره‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏124- 128‏]‏

‏{‏إِنَّمَا جُعِلَ السَّبْتُ عَلَى الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ ‏(‏124‏)‏ ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ ‏(‏125‏)‏ وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ ‏(‏126‏)‏ وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلَا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ ‏(‏127‏)‏ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ ‏(‏128‏)‏‏}‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏إنما جعل السبت على الذين اختلفوا فيه‏}‏ يعني إنما فرض تعظيم السبت على الذين اختلفوا فيه وهم اليهود‏.‏ روى الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس قال‏:‏ أمرهم موسى بتعظيم يوم الجمعة فقال‏:‏ تفرغوا لله في كل سبعة أيام يوماً فاعبدوه في يوم الجمعة ولا تعملوا فيه شيئاً من صنعتكم وستة أيام لصنعتكم، فأبوا عليه وقالوا لا نريد إلا اليوم الذي فرغ الله فيه من الخلق، وهو يوم السبت فجعل ذلك اليوم عليهم وشدد عليهم فيه ثم جاءهم عيسى عليه السلام أيضاً بيوم الجمعة‏.‏ فقالت النصارى لا نريد أن يكون عيدهم بعد عيدنا يعنون اليهود فاتخذوا الأحد فأعطى الله عز وجل الجمعة لهذه الأمة فقبلوها، فبورك لهم فيها ‏(‏ق‏)‏ عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ «نحن الآخرون السابقون يوم القيامة بيد أنهم أوتوا الكتاب من قبلنا فاختلفوا فيه، وأوتيناه من بعدهم فهذا يومهم الذي فرض عليهم، فاختلفوا فيه فهدانا الله له فهم لنا فيه تبع فغداً لليهود، وبعد غد للنصارى» وفي رواية لمسلم «نحن الآخرون الأولون يوم القيامة ونحن أو من يدخل الجنة» وفي رواية أخرى له قال «أضل الله عن الجمعة من كان قبلنا فكان لليهود السبت وللنصارى يوم الأحد فجاء الله بنا فهدانا ليوم الجمعة، فجعل الجمعة والسبت والأحد، وكذلك هم لنا تبع يوم القيامة نحن الآخرون في الدنيا، والأولون يوم القيامة المقضي لهم قبل الخلائق» قال الشيخ محيي الدين النووي في شرح مسلم‏:‏ قال العلماء في معنى الحديث‏:‏ نحن الآخرون في الزمان والوجود السابقون في الفضل ودخول الجنة فتدخل هذه الأمة الجنة قبل سائر الأمم‏.‏ وقوله بيد أنهم يعني غير أنهم أو إلا أنهم‏.‏ وقوله فهذا يومهم الذي فرض عليهم فاختلفوا فيه فهدانا الله له قال‏:‏ القاضي عياض الظاهر أنهم فرض عليهم تعظيم يوم الجمعة بغير تعيين ووكل إلى اجتهادهم لإقامة شرائعهم فيه، فاختلف أحبارهم في تعيينه ولم يهدهم الله له وفرضه على هذه الأمة مبيناً، ولم يكلهم إلى اجتهادهم ففازوا بفضيلته قال‏:‏ يعني القاضي عياضاً وقد جاء أن موسى عليه السلام أمرهم بيوم الجمعة، وأعلمهم بفضله فناظروه أن السبت أفضل‏.‏ فقيل له دعهم‏.‏ قال القاضي‏:‏ ولو كان منصوصاً عليه لم يصح اختلافهم فيه بل كان يقول‏:‏ خالفوه فيه‏.‏ قال الشيخ محيي الدين النووي‏:‏ ويمكن أن يكونوا أمروا به صريحاً ونص على عينه فاختلفوا فيه هل يلزم تعيينه أم لهم إبداله فأبدلوه، وغلطوا في إبداله‏.‏ قال الإمام فخرالدين الرازي في قوله تعالى ‏{‏على الذين اختلفوا فيه‏}‏ يعني على نبيهم موسى، حيث أمرهم بالجمعة فاختاروا السبت فاختلافهم في السبت كان اختلافاً على نبيهم في ذلك اليوم، أي لأجله وليس معنى قوله اختلفوا فيه أن اليهود اختلفوا، فمنهم من قال بالسبت، ومنهم من لم يقل به، لأن اليهود اتفقوا على ذلك‏.‏

وزاد الواحدي على هذا فقال‏:‏ وهذا مما أشكل على كثير من المفسرين حتى قال بعضهم‏:‏ معنى الاختلاف في السبت أن بعضهم قال‏:‏ هو أعظم الأيام حرمة لأن الله فرغ من خلق الأشياء، وقال الآخرون بل الأحد أفضل لأن الله سبحانه وتعالى، ابتدأ فيه بخلق الأشياء، وهذا غلط لأن اليهود لم يكونوا فريقين في السبت، وإنما اختار الأحد النصارى بعدهم بزمان طويل‏.‏ فان قلت إن اليهود إنما اختاروا السبت، لأن أهل الملل اتفقوا على أن الله خلق الخلق في ستة أيام وبدأ الخلق والتكوين في يوم الأحد، وتم الخلق يوم الجمعة وكان يوم السبت يوم فراغ فقالت اليهود نحن نوافق ربنا في ترك العمل في هذا اليوم، فاختاروا السبت لهذا المعنى وقالت النصارى‏:‏ إنما بدأ بخلق الأشياء في يوم الأحد فنحن نجعل هذا اليوم عيداً لنا، وهذان الوجهان معقولان فما وجه فضل يوم الجمعة حتى جعله أهل الإسلام عيداً‏؟‏ قلت‏:‏ يوم الجمعة أفضل الأيام لأن كمال الخلق وتمامه كان فيه وحصول التمام والكمال يوجب الفرح والسرور فجعل يوم الجمعة عيداً بهذا الوجه وهو أولى‏.‏ ووجه آخر وهو أن الله عز وجل خلق فيه أشرف خلقه، وهو آدم عليه السلام وهو أبو البشر وفيه تاب عليه فكان يوم الجمعة أشرف الأيام لهذا السبب، ولأن الله سبحانه وتعالى اختار يوم الجمعة لهذه الأمة وادخره لهم ولم يختاروا لأنفسهم شيئاً، وكان ما اختاره الله لهم أفضل مما اختاره غيرهم لأنفسهم، وقال بعض العلماء‏:‏ بعث الله موسى بتعظيم يوم السبت ثم نسخ بيوم الأحد في شريعة عيسى عليه السلام ثم نسخ يوم السبت، ويوم الأحد بيوم الجمعة في شريعة محمد صلى الله عليه وسلم فكان أفضل الأيام يوم الجمعة كما أن محمد صلى الله عليه وسلم أفضل الأنبياء‏.‏ وفي معنى الآية قول آخر قال قتادة‏:‏ الذي اختلفوا فيه اليهود استحله بعضهم، وحرمه بعضهم فعلى هذا القول يكون معنى قوله إنما جعل السبت أي وبال السبت ولعنته على الذين اختلفوا فيه، وهم اليهود فأحله بعضهم فاصطادوا فيه فلُعنوا ومسخوا قردة وخنازير في زمن داود عليه السلام، وقد تقدمت القصة في تفسير سورة الأعراف وبعضهم ثبت على تحريمه، فلم يصطد فيه شيئاً وهم الناهون والقول الأول أقرب إلى الصحة‏.‏ وقوله تعالى ‏{‏وإن ربك ليحكم بينهم يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون‏}‏ يعني في أمر السبت فيحكم الله بينهم يوم القيامة فيجازي المحقيين بالثواب المبطلين بالعقاب‏.‏

قوله عز وجل ‏{‏ادعُ إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة‏}‏ يعني ادع إلى دين ربك يا محمد، وهو دين الإسلام بالحكمة يعني بالمقالة المحكمة الصحيحة، وهي الدليل الموضح للحق المزيل للشبهة والموعظة الحسنة، يعني وادعهم إلى الله بالترغيب والترهيب وهو أنه لا يخفى عليهم أنك تناصحهم وتقصد ما ينفعهم ‏{‏وجادلهم بالتي هي أحسن‏}‏ يعني بالطريقة التي هي أحسن طرق المجادلة في الرفق واللين من غير فظاظة ولا تعنيف‏.‏ وقيل‏:‏ إن الناس اختلفوا وجعلوا ثلاثة أقسام‏:‏ القسم الأول هم العلماء والكاملون أصحاب العقول الصحيحة والبصائر الثاقبة الذين يطلبون معرفة الأشياء على حقائقها، فهؤلاء المشار إليهم بقوله ‏{‏ادع إلى سبيل ربك بالحكمة‏}‏ يعني ادعهم بالدلائل القطيعة اليقينية حتى يعلموا الأشياء بحقائقها حتى ينتفعوا وينفعوا الناس وهم خواص العلماء من الصحابة وغيرهم‏.‏ القسم الثاني‏:‏ هم أصحاب الفطرة السليمة، والخلقة الأصيلة وهم غالب الناس الذين لم يبلغوا حدّ الكمال، ولم ينزلوا إلى حضيض النقصان فهم أوساط الأقسام، وهم المشار إليهم بقوله‏:‏ والموعظة الحسنة أي ادع هؤلاء بالموعظة الحسنة‏.‏ القسم الثالث‏:‏ هم أصحاب جدال وخصام ومعاندة، وهؤلاء المشار إليهم بقوله‏:‏ وجادلهم بالتي هي أحسن حتى ينقادوا إلى الحق ويرجعوا إليه‏.‏ وقيل‏:‏ المراد بالحكمة القرآن يعني ادعهم بالقرآن الذي هو حكمة وموعظة حسنة، وقيل‏:‏ المراد بالحكمة النبوة أي ادعهم بالنبوة والرسالة والمراد بالموعظة الحسنة الرفق واللين في الدعوة، وجادلهم بالتي هي أحسن أي أعرض عن أذاهم ولا تقصر في تبليغ الرسالة، والدعاء إلى الحق فعلى هذا القول قال بعض علماء التفسير‏:‏ هذا منسوخ بآية السيف ‏{‏إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله وهو أعلم بالمهتدين‏}‏ يعني إنما عليك يا محمد تبليغ ما أرسلت به إليهم ودعاؤهم بهذه الطرق الثلاثة وهو أعلم بالفريقين الضال والمهتدي فيجازي كل عامل بعمله قوله سبحانه وتعالى ‏{‏وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به‏}‏ نزلت هذه الآية بالمدينة في سبب شهداء أحد وذلك أن المسليمن لما رأوا ما فعل المشركون بقتلى المسلمين يوم أحد من تبقير البطون، والمثلة السيئة حتى لم يبق أحد من قتلى المسلمين إلا مثل به غير حنظلة بن أبي عامر الراهب، وذلك أن أباه أبا عامر الراهب كان مع أبي سفيان فتركوا حنظلة لذلك فقال المسلمون حين رأوا ذلك‏:‏ لئن أظهرنا الله عليهم، لنربين على صنيعهم ولنمثلن بهم مثلة لم يفعلها أحد من العرب بأحد‏.‏ ووقف رسول الله صلى الله عليه وسلم على عمه حمزة بن عبد المطلب وقد جدعوا أنفه وآذانه وقطعوا مذاكيره، وبقروا بطنه وأخذت هند بن عتبة قطعة من كبده فمضغتها ثم استرطبتها لتأكلها فلم تنزل في بطنها حتى رمت بها فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ «أما إنها لو أكلتها لم تدخل النار أبداً حمزة أكرم على الله من أن يدخل شيئاً من جسده النار»

فلما نظر رسول الله إلى عمه حمزة نظر إلى شيء لم ينظر إلى شيء قط كان أوجع لقلبه منه‏.‏ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «رحمة الله عليك فإنك ما علمنا ما كنت إلا فعّالاً للخيرات، وصولاً للرحم ولو كان حزن من بعدك عليك لسرني أن أدعك حتى تحشر من أفواج شتى أما والله لئن أظفرني الله بهم لأمثلن بسبعين منهم مكانك» فأنزل الله عز وجل ‏{‏وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به‏}‏ الآية فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «بل نصبر وأمسك عما أراد وكفر عن يمينه» عن أبي بن كعب قالك لما كان يوم أحد أصيب من الأنصار أربعة وستون رجلاً ومن المهاجرين ستة منهم حمزة فمثلوا بهم فقال الأنصار‏:‏ لئن أصبنا منهم يوماً مثل هذا لنربين عليهم‏.‏ قال‏:‏ فلما كان يوم فتح مكة أنزل الله عز وجل ‏{‏وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به، ولئن صبرتم لهو خير للصابرين‏}‏ فقال رجل‏:‏ لا قريش بعد اليوم‏.‏ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «كفروا عن القوم إلا أربعة» أخرجه الترمذي‏.‏ وقال حديث حسن غريب وأما تفسير الآية فقوله تعالى ‏{‏وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به‏}‏ سمي الفعل الأول باسم الثاني للمزاوجة في الكلام، والمعنى إن صنع بكم سوء من قتل أو مثلة ونحوها، فقابلوه بمثله ولا تزيدوا عليه فهو كقوله ‏{‏وجزاء سيئة سيئة مثلها‏}‏ أمر الله برعاية العدل والإنصاف في هذه الآية في باب استيفاء الحقوق‏.‏ يعني‏:‏ إن رغبتم في استيفاء القصاص فاقتصوا بالمثل، ولا تزيدوا عليه فإن استيفاء الزيادة ظلم والظلم ممنوع منه في عدل الله وشرعه ورحمته، وفي الآية دليل على أن الأولى ترك استيفاء القصاص وذلك بطريق الإشارة والرمز والتعريض، بأن الترك أولى فإن كان لا بد من استيفاء القصاص فيكون من غير زيادة عليه بل يجب مراعاة المماثلة ثم انتقل من طريق الإشارة إلى طريق التصريح فقال تعالى ‏{‏ولئن صبرتم لهو خير للصابرين‏}‏ يعني ولئن عفوتم، وتركتم استيفاء القصاص وصبرتم كان ذلك العفو، والصبر خيراً من استيفاء القصاص وفيه أجر للصابرين والعافين‏.‏

فصل

اختلفت العلماء هل هذه الآية منسوخة أم لا، على قولين‏:‏ أحدهما أنها نزلت قبل براءة فأمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يقاتل من قاتله ولا يبدأ بالقتال ثم نسخ ذلك وأمر بالجهاد وهذا قول ابن عباس والضحاك، فعلى هذا يكون معنى قوله ولئن صبرتم عن القتال، فلما أعز الله الإسلام وكثر أهله أمر الله رسوله صلى الله عليه وسلم بالجهاد، ونسخ هذا بقوله‏:‏ اقتلوا المشركين حيث وجدتموهم الآية، القول الثاني‏:‏ أنها أحكمت، وأنها نزلت فيمن ظلم ظلامة فلا يحل له أن ينال من ظالمه أكثر مما نال منها الظالم وهذا قول مجاهد والشعبي والنخعي وابن سيرين والثوري‏.‏

قال بعضهم‏:‏ الأصح أنها محكمة لأن الآية واردة في تعليم حسن الأدب في كيفية استيفاء الحقوق وفي القصاص وترك التعدي وهو طلب الزيادة، وهذه الأشياء لا تكون منسوخة فلا تعلق لها بالنسخ والله أعلم‏.‏ قوله عز وجل ‏{‏واصبر وما صبرك إلا بالله‏}‏ الخطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم أمر الله سبحانه وتعالى نبيه صلى الله عليه وسلم بالصبر، وأعلمه أن صبره بتوفيقه ومعونته ‏{‏ولا تحزن عليهم‏}‏ يعني على الكافرين، وإعراضهم عنك وقيل‏:‏ معنى الآية ولا تحزن على قتلى أحد وما فعل بهم فإنهم أفضوا إلى رحمة الله ورضوانه ‏{‏ولا تك في ضيق مما يمكرون‏}‏ يعني‏:‏ ولا يضيقن صدرك يا محمد بسبب مكرهم، فإن الله كافيك وناصرك عليهم‏.‏ قرئ في ضيق بفتح الضاد وكسرها، فقيل لغتان‏.‏ وقال أبو عمر‏:‏ والضيق بالفتح الغم وبالكسر الشدة، وقال أبو عبيدة الضيق بالكسر في قلة المعاش وفي المسكين وإما ما كان في القلب والصدر فإنه بالفتح، وقال القتيبي‏:‏ الضيق تخفيف ضيق مثل هين وهين ولين ولين فعلى هذا يكون صفة كأنه قال سبحانه وتعالى‏:‏ ولا تك في أمر ضيق من مكرهم‏.‏ قال الإمام فخر الدين الرازي‏:‏ وهذا الكلام من المقلوب، لأن الضيق صفة والصفة تكون حاصلة في الموصوف، ولا يكون الموصوف حاصلاً في الصفة فكان المعنى لا يكن الضيق حاصلاً فيك إلا أن الفائدة في قوله‏:‏ ولا تك في ضيق، هي أن الضيق إذا عظم وقوي صار كالشيء المحيط بالإنسان من كل جانب، كالقميص المحيط به فكانت الفائدة في ذكر هذا اللفظ بهذا المعنى ‏{‏إن الله مع الذين اتقوا‏}‏ أي اتقو المثلة والزيادة في القصاص وسائر المناهي ‏{‏والذين هم محسنون‏}‏ يعني بالعفو عن الجاني، وهذه المعية بالعون والفضل والرحمة يعني إن أردت أيها الإنسان أن أكون معك بالعون والفضل والرحمة، فكن من المتقين المحسنين، وفي هذا إشارة إلى التعظيم لأمر الله، والشفقة على خلق الله‏.‏ قال بعض المشايخ‏:‏ كمال الطريق صدق مع الحق، وخلق مع الخلق وكمال الإنسان أن يعرف الحق لذاته والخير لأجل أن يعمل به، وقيل لهرم ابن حيان عند الموت‏:‏ أوص‏.‏ فقال‏:‏ إنما الوصية في المال ولا مال لي، ولكني أوصيك بخواتيم سورة النحل‏.‏ والله أعلم بمراده وأسرار كتابه‏.‏

سورة الإسراء

تفسير الآية رقم ‏[‏1‏]‏

‏{‏سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آَيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ ‏(‏1‏)‏‏}‏

قوله عز وجل ‏{‏سبحان الذين أسرى بعبده ليلاً‏}‏ روى ابن الجوزي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه سئل عن تفسير سبحان الله فقال‏:‏ «تنزيه الله عن كل شيء» هكذا ذكره بغير سند وقال النحويون‏:‏ سبحان اسم علم على التسبيح يقال سبحت الله تسبيحاً فالتسبيح هو المصدر وسبحان الله علم للتسبيح وتفسير سبحان الله، تنزيه الله عن كل سوء ونقيصة وأصله في اللغة التباعد فمعنى سبحان الله بعده ونزاهته عن كل ما لا يبغي ‏{‏الذي أسرى‏}‏ يقال سري به وأسري به لغتان ‏{‏بعده‏}‏ أجمع المفسرون والعلماء والمتكلمون، أن المراد به محمد صلى الله عليه وسلم لم يختلف أحد من الأمة في ذلك، وقوله بعبده إضافة تشريف وتعظيم وتبجيل وتفخيم وتكريم ومنه قول بعضهم‏.‏

لا تدعني إلا بيا عبدها *** فإنه أشرف أسمائي

قيل‏:‏ لما بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الدرجات العالية والرتب الرفيعة ليلة المعراج، أوحى الله عز وجل إليه يا محمد بم شرفتك‏؟‏ قال‏:‏ رب حيث نسبتني إلى نفسك بالعبودية‏.‏ فانزل الله سبحانه وتعالى‏:‏ سبحان الذي أسرى بعبده ليلاً‏.‏ فإن قلت‏:‏ الإسراء لا يكون إلا بالليل فما معنى ذكر الليل‏.‏ قلت‏:‏ أراد بقوله ليلاً بلفظ التنكير تقليل مدة الإسراء وأنه أسري به في بعض ليلة من مكة إلى الشام مسيرة شهر أو أكثر، فدل تنكير الليل على البعضية ‏{‏من المسجد الحرام‏}‏ قيل كان الإسراء من نفس مسجد مكة وفي حديث مالك بن صعصعة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال «بينا أنا في المسجد الحرام في الحجر» وذكر حديث المعراج، وسيأتي بكماله فيما بعد وقيل عرج به من دار أم هانئ بنت أبي طالب وهي بنت عمه أخت علي رضي الله تعالى عنه، فعلى هذا أراد بالمسجد الحرام الحرم ‏{‏إلى المسجد الأقصى‏}‏ يعني إلى بيت المقدس سمي أقصى لبعده عن المسجد الحرام أو لأنه لم يكن حينئذ وراءه مسجد ‏{‏الذي باركنا حوله‏}‏ يعني الأنهار والأشجار والثمار، وقيل سماه مباركاً لأنه مقر الأنبياء ومهبط الملائكة والوحي وقبلة الأنبياء قبل نبينا محمد صلى الله عليه وسلم وإليه تحشر الخلق يوم القيامة‏.‏ فإن قلت‏:‏ ظاهر الآية يدل على أن الإسراء كان إلى بيت المقدس والأحاديث الصحيحة تدل على أنه عرج به إلى السماء فكيف الجمع بين الدليلين، وما فائدة ذكر المسجد الأقصى فقط‏؟‏ قلت‏:‏ قد كان الإسراء على ظهر البراق إلى المسجد الإقصى، ومنه كان عروجه إلى السماء على المعراج وفائدة ذكر المسجد الأقصى فقط أنه صلى الله عليه وسلم لو أخبر بصعوده إلى السماء أولاً لاشتد إنكارهم لذلك فلما أخبر أنه أسرى به إلى بيت المقدس، وبان لهم صدقه فيما أخبر به من العلامات التي فيه وصدقوه عليها أخبر بعد ذلك بعروجه إلى السماء، فجعل الإسراء إلى المسجد الأقصى كالتوطئة لمعراجه إلى السماء‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏لنريه من آياتنا‏}‏ يعني من عجائب قدرتنا فقد رأى محمد صلى الله عليه وسلم في تلك الليلة الأنبياء وصلى بهم ورأى الآيات العظام‏.‏ فإن قلت لفظة من قوله من آياتنا تقتضي التبعيض وقال في حق إبراهيم عليه السلام وكذلك نري إبراهيم ملكوت السموات والأرض، وظاهر هذا يدل على فضيلة إبراهيم عليه السلام على محمد صلى الله عليه وسلم ولا قائل به فما وجهه‏.‏ قلت‏:‏ ملكوت السموات والأرض من بعض آيات الله أيضاً ولآيات الله أفضل من ذلك وأكثر والذي أراه محمداً صلى الله عليه وسلم من آياته وعجائبه تلك الليلة كان أفضل من ملكوت السموات والأرض، فظهر بهذا البيان فضل محمد صلى الله عليه وسلم على إبراهيم صلى الله عليه وسلم ‏{‏إنه هو السميع‏}‏ لأقواله ودعائه ‏{‏البصير‏}‏ لأفعاله الحافظة له في ظلمة الليل وقت إسرائه وقيل إنه هو السميع لما قالته له قريش حين أخبرهم بمسراه إلى بيت المقدس ‏{‏البصير‏}‏ بما ردوا عليه من التكذيب‏.‏ وقيل‏:‏ إنه هو السميع لأقوال جميع خلقه البصير بأفعالهم فيجازي كل عامل بعمله‏.‏ وحمله على العموم أولى‏.‏

فصل

في ذكر حديث المعراج وما يتعلق به من الأحكام، وما قال العلماء فيه ‏(‏ق‏)‏ حدثنا قتادة عن أنس بن مالك عن مالك بن صعصعة أن نبي الله صلى الله عليه وسلم حدثهم عن ليلة أسري به قال‏:‏ «بينما أنا في الحطيم وربما قال في الحجر مضطجعاً، ومنهم من قال بين النائم واليقظان إذ أتاني آت فقد قال وسمعته يقول‏:‏ فشق ما بين هذه إلى هذه فقلت للجارود وهو إلى جنبي ما يعني به قال من ثغرة نحره إلى شعرته سمعته يقول من قصته إلى شعرته، فاستخرج قلبي ثم أتيت بطست من ذهب مملوءة إيماناً، فغسل قلبي ثم حشى ثم أعيد ثم أتيت بدابة دون البغل وفوق الحمار أبيض فقال له الجارود‏:‏ أهو البراق يا أبا حمزة‏؟‏ قال أنس‏:‏ نعم يضع خطوه عند أقصى طرفه فحملت عليه، فانطلق بي جبريل عليه السلام حتى أتى المساء الدنيا فاستفتح فقيل‏:‏ من هذا‏؟‏ قال جبريل قيل ومن معك قال محمد قيل‏:‏ وقد أرسل إليه قال‏:‏ نعم قيل مرحباً به فنعم المجيء جاء ففتح فلما خلصت فإذا فيها آدم فقال‏:‏ هذا أبوك آدم فسلم عليه فسلمت عليه فرد السلام ثم قال‏:‏ مرحباً بالابن الصالح والنبي الصالح ثم صعد حتى أتى السماء الثانية فاستفتح‏.‏ قيل من هذا قال جبريل قيل ومن معك قال‏:‏ محمد قيل‏:‏ وقد أرسل إليه قال نعم قيل مرحباً به فنعم المجيء جاء ففتح فلما خلصت فإذا بيحيى وعيسى وهما ابنا خالة قال‏:‏ هذا يحيى وعيسى فسلم عليهما فسلمت فردا ثم قالا‏:‏ مرحباً بالأخ الصالح، والنبي الصالح‏.‏ ثم صعد بي إلى السماء الثالثة فاستفتح قيل من هذا قال جبريل قيل‏:‏ ومن معك قال محمد قيل وقد أرسل إليه قال‏:‏ نعم قيل مرحباً به فنعم المجيء جاء ففتح فلما خلصت إذا يوسف، قال‏:‏ هذا يوسف فسلم عليه فسلمت عليه فرد ثم قال‏:‏ مرحباً بالأخ الصالح والنبي الصالح‏.‏ ثم صعد بي حتى أتى السماء الرابعة فاستفتح قيل من هذا قال جبريل قيل‏:‏ ومن معك‏؟‏ قال‏:‏ محمد قيل وقد أرسل إليه قال نعم قيل مرحباً به فنعم المجيء جاء ففتح فلما خلصت، فإذا إدريس قال‏:‏ هذا إدريس فسلم عليه فسلمت عليه فرد ثم قال‏:‏ مرحباً بالأخ الصالح والنبي الصالح، ثم صعد بي حتى أتى السماء الخامسة فاستفتح قيل من هذا قال جبريل قيل ومن معك قال محمد قيل وقد أرسل إليه قال نعم قيل مرحباً فنعم المجيء جاء ففتح فلما خلصت فإذا هارون قال‏:‏ هذا هارون فسلم عليه فسلمت فرد ثم قال‏:‏ مرحباً بالأخ الصالح والنبي الصالح‏.‏ ثم صعد بي حتى أتى السماء السادسة فاستفتح قيل من هذا قال جبريل قيل ومن معك قال محمد قيل وقد أرسل إليه قال نعم قال مرحباً فنعم المجيء فلما خلصت فإذا موسى قال‏:‏ هذا موسى فسلم عليه فسلمت عليه فرد ثم قال‏:‏ مرحباً بالأخ الصالح والنبي الصالح فلما تجاوزت بكى قيل له‏:‏ ما يبكيك‏؟‏ قال‏:‏ أبكي لأن غلاماً بعث بعدي يدخل الجنة من أمته أكثر مما يدخلها من أمتي ثم صعد بي إلى السماء السابعة فاستفتح جبريل قيل من هذا قال جبريل قيل‏:‏ ومن معك قال محمد قيل وقد أرسل إليه قال نعم قيل مرحباً به فنعم المجيء جاء لما خلصت فإذا إبراهيم قال‏:‏ هذا أبوك إبراهيم فسلم عليه فسلمت عليه فرد السلام ثم قال‏:‏ مرحباً بالأخ الصالح والنبي الصالح، ثم رفعت إلى سدرة المنتهى فإذا نبقها مثل قلال هجر، وإذا ورقها مثل آذان الفيلة قال‏:‏ هذه سدرة المنتهى فإذا أربعة أنهار نهران باطنان ونهران ظاهران، فقلت‏:‏ ما هذان يا جبريل قال‏:‏ أما الباطنان فنهران في الجنة وأما الظاهران فالنيل والفرات، ثم رفع لي البيت المعمور ثم أتيت بإناء من خمر وإناء من لبن وإناء من عسل فأخذت اللبن فقال‏:‏ هي الفطرة أنت عليها وأمتك ثم فرضت على الصلوات خمسين صلاة كل يوم فرجعت، فمررت على موسى فقال بم أمرت قلت‏:‏ أمرت بخمسين صلاة كل يوم‏.‏ قال‏:‏ إن أمتك لا تستطيع خمسين صلاة كل يوم وإني والله قد جربت الناس قبلك، وعالجت بني إسرائيل أشد المعالجة فارجع إلى ربك فاسأله التخفيف لأمتك، فرجعت فوضع عني عشراً، فرجعت إلى موسى فقال مثله فرجعت فوضع عني عشراً، فرجعت إلى موسى فقال مثله فرجعت فوضع عني عشراً، فرجعت إلى موسى فقال مثله فرجعت فأمرت بعشر صلوات كل يوم، فرجعت إلى موسى فقال مثله فرجعت فأمرت بخمس صلوات كل يوم فرجعت إلى موسى، قال‏:‏ بم أمرت‏؟‏ قلت‏:‏ بخمس صلوات كل يوم قال‏:‏ إن أمتك لا تستييع خمس صلوات كل يوم وإني قد جربت الناس قبلك وعالجت بني إسرائيل أشد المعالجة فارجع إلى ربك فاسأله التخفيف لأمتك قال سألت‏:‏ ربي حتى استحييت ولكن أرضى وأسلم قال‏:‏ فلما جاوزت نادى منادي أمضيت فريضتي وخففت عن عبادي»

زاد في رواية أخرى «وأجزي بالحسنة عشراً» وفي رواية أخرى «بينا أنا عند البيت بين النائم واليقظان وفيه ثم غسل البطن بماء زمزم ثم ملئ إيماناً وحكمة، وفيه فرفع إلى البيت المعمور فسألت جبريل فقال هذا البيت المعمور يصلي فيه كل يوم سبعون ألف ملك، إذا خرجوا لم يعودوا مرة أخرى» ‏(‏ق‏)‏ «عن أنس بن مالك قال‏:‏ كان أبو ذر يحدث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ فرج سقف بيتي وأنا بمكة فنزل جبريل، ففرج صدري ثم غسله من ماء زمزم ثم جاء بطست من ذهب ممتلئ حكمة وإيماناً، فأفرغها في صدري ثم أطبقه ثم أخذ بيدي فعرج بي إلى السماء فلما جئنا السماء الدنيا قال جبريل لخازن السماء الدنيا‏:‏ افتح قال من هذا قال هذا جبريل قيل هل معك أحد قال‏:‏ نعم معي محمد صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ فأرسل إليه قال نعم فافتح ففتح قال‏:‏ فلما علونا السماء الدنيا فإذا رجل عن يمينه أسودة وعن يساره أسودة قال فإذا نظر قبل يمينه ضحك، وإذا نظر قبل شماله بكى فقال مرحباً بالنبي الصالح والابن الصالح، قال‏:‏ قلت يا جبريل من هذا قال هذا آدم، وهذه الأسودة عن يمينه وعن شماله نسم بنيه فأهل اليمين أهل الجنة، والأسودة التي عن شماله أهل النار، فإذا نظر قبل يمينه ضحك وإذا نظر قبل شماله بكى، قال‏:‏ ثم عرج بي جبريل حتى أتى السماء الثانية فقال لخازنها‏:‏ افتح‏.‏ فقال له خازنها مثل ما قال خازن السماء الدنيا ففتح‏.‏ قال أنس بن مالك‏:‏ فذكر أنه وجد في السموات آدم وإدريس وعيسى وموسى وإبراهيم، ولم يثبت كيف منازلهم غير أنه ذكر أنه قد وجد آدم في السماء الدنيا وإبراهيم في السماء السادسة، قال‏:‏ لما مر جبريل ورسول الله بإدريس قال مرحباً بالنبي الصالح والأخ الصالح، قال‏:‏ ثم مر فقلت من هذا قال هذا إدريس قال‏:‏ ثم مررت بموسى فقال مرحباً بالنبي الصالح والأخ الصالح قال‏:‏ فقلت من هذا قال‏:‏ هذا موسى‏.‏ قال ثم مررت بعيسى فقال مرحباً بالنبي الصالح والأخ الصالح قلت من هذا قال‏:‏ عيسى ابن مريم قال ثم مررت بإبراهيم فقال مرحباً بالنبي الصالح والإبن الصالح قال فقلت من هذا قال هذا إبراهيم‏.‏ قال ابن شهاب‏:‏ وأخبرني ابن حزم أن ابن عباس وأبا حبة الأنصاري كانا يقولان‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم عرج بي حتى ظهرت لمستوى أسمع فيه صريف الأقلام‏.‏ قال ابن حزم وأنس بن مالك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ففرض الله على أمتي خمسين صلاة قال‏:‏ فرجعت بذلك حتى مررت بموسى فقال موسى‏:‏ ما فرض ربك على أمتك‏؟‏ قلت‏:‏ فرض عليهم خمسين صلاة‏.‏ قال لي موسى‏:‏ فراجع ربك فإن أمتك لا تطيق ذلك قال فراجعت ربي فوضع شطرها‏.‏ قال فرجعت إلى موسى فأخبرته قال‏:‏ راجع ربك فإن أمتك لا تطيق ذلك قال‏:‏ فراجعت ربي فقال‏:‏ هي خمس وهن خمسون لا يبدل القول لدي قال فرجعت إلى موسى فقال‏:‏ راجع ربك فقلت قد استحييت من ربي قال‏:‏ ثم انطلق بي جبريل حتى أتى سدرة المنتهى فغشيها ألوان لا أدري ما ماهي‏؟‏ قال‏:‏ ثم أدخلت الجنة فإذا فيها جنابذ اللؤلؤ وإذا ترابها المسك»

‏(‏ق‏)‏ عن شريك بن أبي نمر «أنه سمع أنس بن مالك يقول ليلة أسري برسول الله صلى الله عليه وسلم من مسجد الكعبة أنه جاءه ثلاثة نفر قبل أن يوحى إليه وهو نائم في المسجد الحرام‏.‏ فقال أولهم‏:‏ أيهم هو‏؟‏ فقال أوسطهم هو خيرهم فقل آخرهم خذوا خيرهم فكانت تلك الليلة، فلم يرهم حتى أتوه ليلة أخرى فيما يرى قلبه وتنام عينه ولا ينام قلبه وكذلك الأنبياء تنام أعينهم ولا تنام قلوبهم فلم يكلموه حتى احتملوه فوضعوه عند بئر زمزم، فتولاه منهم جبريل فشق جبريل ما بين نحره إلى لبته حتى فرغ من صدره وجوفه فغسله من ماء زمزم بيده حتى أنقى جوفه، ثم أتى بطست من ذهب فيه نور من ذهب محشواً إيماناً، وحكمة فحشا به صدره ولغاد يده يعني عروق حلقه ثم أطبقه ثم عرج به إلى السماء الدنيا، فضرب باباً من أبوابها فناداه أهل السماء من هذا فقال جبريل قالوا‏:‏ ومن معك قال معي محمد قالوا‏:‏ وقد بعث إليه قال نعم قالوا‏:‏ مرحباً به وأهلاً يستبشر به أهل السماء لا يعلم أهل السماء ما يريد الله به في الأرض حتى يعلمهم فوجد في السماء الدنيا آدم عليه السلام فقال له جبريل‏:‏ هذا أبوك آدم فسلم عليه ورد عليه السلام وقال‏:‏ مرحباً وأهلاً اي بني نعم الابن أنت فإذا هو في السماء الدنيا، بنهرين يطردان فقال‏:‏ ما هذان النهران يا جبريل‏؟‏ قال‏:‏ هذان النيل والفرات عنصر هما ثم مضى به في السماء، فإذا هو بنهر آخر عليه قصر من لؤلؤ وزبرجد فضرب بيده فإذا هو مسك أذفر قال ما هذا يا جبريل قال‏:‏ هذا الكوثر الذي خبأ لك ربك ثم عرج إلى السماء الثانية فقالت الملائكه له مثل ما قالت له الأولى من هذا‏؟‏ قال جبريل قالوا‏:‏ ومن معك قال محمد قالوا‏:‏ وقد بعث إليه قال‏:‏ نعم قالوا‏:‏ مرحباً به وأهلاً ثم عرج به إلى السماء الثالثة‏.‏ وقالوا له مثل ما قالت الأولى والثانية‏.‏ ثم عرج به إلى الرابعة فقالوا له مثل ذلك‏.‏ ثم عرج به إلى السماء الخامسة‏.‏ فقالوا له مثل ذلك‏.‏ ثم عرج به إلى السماء السادسة‏.‏ فقالوا له مثل ذلك‏.‏ ثم عرج به إلى السماء السابعه‏.‏ فقالوا له مثل ذلك‏.‏ كل سماء فيها أنبياء قد سماهم فوعيت منهم إدريس في الثانية وهارون في الرابعة، وآخر في الخامسة ولم أحفظ أسمه وإبراهيم في السادسة وموسى في السابعة بتفضيل كلام الله فقال موسى‏:‏ رب لم أظن أن يرفع علي أحد، ثم علا به فوق ذلك بما لا يعلمه إلا الله حتى جاء سدرة المنتهى، ودنا الجبار رب العزة فتدلى فكان منه قاب قوسين أو أدنى فأوحى الله فيما أوحى إليه خمسين صلاة على أمتك كل يوم وليلة، ثم هبط حتى بلغ موسى فاحتبسه موسى فقال‏:‏ يا محمد ماذا عهد إليك ربك قال عهد إلي خمسين صلاة كل يوم وليلة قال‏:‏ إن أمتك لا تستطيع ذلك فارجع فليخفف عنك ربك وعنهم فالتفت النبي صلى الله عليه وسلم إلى جبريل كأنه يستشيره في ذلك فأشار إليه جبريل أن نعم إن شئت فعلا به إلى الجبار تعالى، فقال‏:‏ وهو مكانه يا رب خفف عنا فإن أمتي لا تستطيع هذا فوضع عنه عشر صلوات ثم رجع إلى موسى فاحتبسه فلم يزل يردده موسى إلى ربه حتى صارت خمس صلوات، ثم احتبسه موسى عند الخمس فقال‏:‏ يا محمد والله لقد راودت بني إسرائيل قومي على أدنى من هذا، فضعفوا فتركوه فأمتك أضعف أجساداً وقلوباً وأبداناً وأبصاراً وأسماعاً، فارجع فليخفف عنك ربك كل ذلك يلتفت النبي صلى الله عليه وسلم إلى جبريل عليه السلام ليشير عليه، فلا يكره ذلك جبريل فرفعه عند الخامسة فقال‏:‏ يا رب إن أمتي ضعفاء أجسادهم وقلوبهم وأسماعهم وأبدانهم، فخفف عنا‏.‏ فقال الجبار‏:‏ يا محمد‏.‏ قال‏:‏ لبيك وسعديك قال‏:‏ إنه لا يبدل القول لدي كما فرضت عليك في أم الكتاب قال‏:‏ فكل حسنة بعشر أمثالها فهي خمسون في أم الكتاب وهي خمس عليك فرجع إلى موسى فقال‏:‏ كيف فعلت‏؟‏ قال‏:‏ خفف عنا أعطانا بكل حسنة عشر أمثالها‏.‏ قال موسى‏:‏ قد والله راودت بني إسرائيل على أدنى من ذلك فتركوه ارجع إلى ربك فليخفف عنك أيضاً قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ يا موسى قد والله استحييت من ربي مما اختلفت إليه‏.‏ قال‏:‏ فاهبط بسم الله فاستيقظ وهو في المسجد الحرام»

هذا لفظ حديث البخاري وأدرج مسلم حديث شريك بن أنس الموقوف عليه في حديث ثابت البناني المسند، فذكر من أول حديث شريك طرفاً ثم قالك وساق الحديث نحو حديث ثابت قال مسلم، وقدم وأخر وزاد ونقص وليس في حديث ثابت من هذه الألفاظ إلا ما نورده على نصه، أخرجه مسلم وحده وهو حدثنا حماد بن سلمة عن ثابت البناني عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «قال أتيت بالبراق وهو دابة أبيض طويل فوق الحمار ودون البغل يضع حافره عن منتهى طرفه‏.‏ قال‏:‏ فركبته حتى أتيت بيت المقدس قال فربطته بالحلقة التي يربط بها الأنبياء، ثم دخلت فصليت فيه ركعتين ثم خرجت فجاءني جبريل بإناء من خمر وإناء من لبن فاخترت اللبن فقال جبريل عليه السلام اخترت الفطرة قال ثم عرج بنا إلى السماء فاستفتح جبريل فقيل‏:‏ من أنت‏؟‏ قال جبريل قيل ومن معك قال محمد قيل وقد بعث إليه قال قد بعث إليه، ففتح لنا فإذا أنا بآدم فرحب بي ودعا لي بخير ثم عرج بنا إلى السماء الثانية فاستفتح جبريل، فقيل‏:‏ من أنت قال جبريل قيل ومن معك قال‏:‏ محمد‏.‏ قيل‏:‏ وقد بعث إليه، قال‏:‏ قد بعث إليه ففتح لنا، فإذا أنا بابني الخالة عيسى ابن مريم ويحيى بن زكريا فرحبا بي ودعوا لي بخير ثم عرج بنا إلى السماء الثالثة، فاسستفتح جبريل فقيل من أنت قال جبريل، قيل ومن معك قال محمد، قيل‏:‏ وقد بعث إليه، قال قد بعث إليه ففتح لنا فإذا أنا بيوسف عليه السلام فإذا هو قد أعطى شطر الحسن، قال‏:‏ فرحب بي ودعا لي بخير ثم عرج بنا إلى السماء الرابعة‏.‏ فاستفتح جبريل فقيل‏:‏ من هذا‏؟‏ قال جبريل قيل‏:‏ ومن معك‏؟‏ قال‏:‏ محمد قيل وقد بعث إليه قال‏:‏ قد بعث إليه ففتح لنا فإذا أنا بإدريس فرحب ودعا لي بخير، قال الله تعالى ورفعناه مكاناً علياً ثم عرج بنا إلى الخامسة‏.‏ فاستفتح جبريل فقيل‏:‏ من هذا قال‏:‏ جبريل قيل‏:‏ ومن معك قال محمد قيل‏:‏ وقد بعث إليه قال قد بعث إليه ففتح لنا فإذا أنا بهارون فرحب ودعا لي بخير، ثم عرج بنا إلى السماء السادسة فاستفتح جبريل، فقيل من هذا قال جبريل قيل‏:‏ ومن معك قال محمد قيل وقد بعث إليه قال‏:‏ قد بعث إليه ففتح لنا فإذا أنا بموسى فرحب بي ودعا لي بخير ثم عرج بنا إلى السماء السابعة فاستفتح جبريل فقيل‏:‏ من هذا قال‏:‏ جبريل قيل‏:‏ ومن معك‏؟‏ قال محمد قيل‏:‏ وقد بعث إليه قال‏:‏ قد بعث إليه ففتح لنا فإذا أنا بإبراهيم عليه السلام مسنداً ظهره إلى البيت المعمور وإذا هو يدخله كل يوم سبعون ألف ملك لا يعودون إليه ثم ذهب بي إلى سدرة المنتهى وإذا ورقها كأذان الفيلة وإذا ثمرها كالقلائل فلما غشيها من أمر الله ما غشي تغيرت فما أحد من خلق الله يستطيع أن ينعتها من حسنها، فأوحى إلي ما أوحى ففرض علي خمسين صلاة في كل يوم وليلة، فنزلت إلى موسى فقال‏:‏ ما فرض ربك على أمتك قلت خمسين صلاة قال‏:‏ ارجع إلى ربك فاسأله التخفيف فإن أمتك لا يطيقون ذلك فإني قد بلوت بني إسرائيل وخبرتهم قال‏:‏ فرجعت إلى ربي فقلت‏:‏ يا رب خفف على أمتي فحط عني خمساً فرجعت إلى موسى فقلت‏:‏ قد حط عني خمساً قال‏:‏ إن أمتك لا تطيق ذلك فارجع إلى ربك فاسأله التخفيف قال‏:‏ فلم أزل أرجع بين ربي تبارك وتعالى وبين موسى حتى قال يا محمد إنهن خمس صلوات كل يوم وليلة لكل صلاة عشر فذلك خمسون صلاة، ومن هم بحسنة فلم يعملها كتبت له حسنة، فإن عملها كتبت له عشراً ومن همّ بسيئة فلم يعملها لم تكتب شيئاً، فإن عملها كتبت واحدة قال فنزلت حتى انتهيت إلى موسى فأخبرته قال ارجع إلى ربك فاسأله التخفيف فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ فقلت قد رجعت إلى ربي حتى استحييت منه»

هذه رواية مسلم وأخرجه الترمذي مختصراً وفيه «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتى بالبراق ليلة أسرى به ملجماً مسرجاً، فاستصعب عليه فقال له جبريل أبمحمد تفعل هكذا ما ركبك أحد أكرم على الله منه فارفض عرقاً» وأخرجه النسائي مختصراً، والمعنى واحد وفي آخره قال‏:‏ فرجعت إلى ربي فسألته التخفيف فقال إني يوم خلقت السموات والأرض فرضت عليك وعلى أمتك خمسين صلاة فخمس بخمسين فقم بها أنت وأمتك فعرفت أن أمر الله جرى بقول حتم فلم أرجع‏.‏

فصل

قال البغوي‏:‏ قال بعض أهل الحديث ما وجدنا للبخاري ومسلم في كتابيهما شيئاً لا يحتمل مخرجاً إلا حديث شريك بن أبي نمر عن أنس، وأحال الأمر فيه على شريك وذلك أنه ذكر فيه إن ذلك كان قبل الوحي، واتفق أهل العلم على أن المعراج كان بعد الوحي بنحو من اثنتي عشرة سنة وفيه أن الجبار تبارك وتعالى دنا فتدلى وذكرت عائشة أن الذي دلى هو جبريل عليه السلام‏.‏ قال البغوي‏:‏ وهذا الاعتراض عندي لا يصح لأن هذا كان رؤيا في النوم أراه الله ذلك قبل أن يوحى إليه بدليل آخر الحديث، فاستيقظ وهو في المسجد الحرام ثم عرج به في اليقظة بعد الوحي، وقبل الهجرة بسنة تحقيقاً لرؤياه التي رآها من قبل كما أنه رأى فتح مكة في المنام عام الحديبية سنة ست من الهجرة ثم كان تحقيقها سنة ثمان، ونزل قوله سبحانه وتعالى‏:‏ لقد صدق الله رسوله الرؤيا بالحق‏.‏

وقال الشيخ محيي الدين النووي رحمه الله تعالى في كتابه شرح مسلم‏:‏ قد جاء في رواية شريك في هذا الحديث أوهام أنكرها عليه العلماء وقد نبه مسلم على ذلك بقوله قدم وأخر وزاد ونقص منه قوله وذلك قبل أن يوحى إليه وهو غلط لم يوافق عليه فإنه الإسراء أقل ما قيل فيه أنه كان بعد مبعثه صلى الله عليه وسلم بخمسة عشر شهراً‏.‏ وقال الحربي‏:‏ كانت ليلة الإسراء ليلة سبع وعشرين من شهر ربيع الآخر قبل الهجرة بسنة، وقال الزهري‏:‏ كان ذلك بعد مبعثه صلى الله عليه وسلم بخمس سنين‏.‏ وقال ابن إسحاق‏:‏ أسري به صلى الله عليه وسلم وقد فشا الإسلام بمكة والقبائل‏.‏ قال الشيخ محيي الدين‏:‏ وأشبه الأقوال قول الزهري وابن إسحاق وأما قوله في رواية شريك وهو نائم وفي الرواية الأخرى بينا أنا عند البيت بين النائم واليقظان، فقد يحتج به من يجعلها رؤيا نوم، ولا حجة فيه إذ قد يكون ذلك حالة أو وصول الملك إليه، وليس في الحديث ما يدل على كونه نائماً في القصة كلها هذا كلام القاضي عياض، وهذا الذي قاله في رواية شريك وأن أهل العلم قد أنكروها قد قاله غيره، وقد ذكر البخاري في رواية شريك هذه عن أنس في كتاب التوحيد من صحيحه، وأتى بالحديث مطولاً‏.‏ قال الحافظ من رواية شريك بن أبي نمر عن أنس قد زاد فيه زيادة مجهولة، وأتى فيه بألفاظ غير معروفة وقد روى حديث الإسراء جماعة من الحفاظ المتقنين، والأئمة المشهورين كابن شهاب وثابت البناني وقتادة يعني عن أنس فلم يأت أحد منهم بما أتى شريك، وشريك ليس بالحافظ عند أهل الحديث قال‏:‏ والأحاديث التي تقدمت قبل هذا هي المعمول عليها‏.‏

فصل

في شرح بعض ألفاظ حديث المعراج وما يتعلق به، كانت ليلة الإسراء قبل الهجرة بسنة يقال كانت في رجب ويقال في رمضان وقد تقدم زيادة على هذا القدر في الفصل الذي قبل هذا واختلف الناس في الإسراء برسول الله صلى الله عليه وسلم فقيل‏:‏ إنما كان ذلك في المنام والحق الذي عليه أكثر الناس، ومعظم السلف وعامة الخلف من المتأخرين والفقهاء والمحدثين والمتكلمين أنه أسري بروحه وجسده صلى الله عليه وسلم ويدل عليه قوله سبحانه وتعالى‏:‏ ‏{‏سبحان الذي أسرى بعبده ليلاً‏}‏ ولفظ العبد عبارة عن مجموع الروح والجسد، والأحاديث الصحيحة التي تقدمت تدل على صحة هذا القول لمن طالعها، وبحث عنها وحكى محمد بن جرير الطبري في تفسيره عن حذيفة أنه قال‏:‏ كل ذلك كان رؤيا وأنه ما فقد جسد رسول الله صلى الله عليه وسلم وإنما أسري بروحه‏.‏

وحكي هذا القول عن عائشة أيضاً وعن معاوية ونحوه والصحيح ما عليه جمهور العلماء من السلف والخلق والله أعلم قوله صلى الله عليه سلم أتيت بالبراق هو اسم للدابة التي ركبها رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة أسري به واشتقاقه من البرق لسرعته، أو لشدة صفائه وبياضه ولمعانه وتلألؤه ونوره والحلقة باسكان اللام، ويجوز فتحها والمراد بربط البراق بالحلقة الأخذ بالاحتياط في الأمور وتعاطي الأسباب، وإن ذلك لا يقدح في التوكل إذا كان الاعتماد على الله تعالى وقوله جاءني جبريل بإناء من خمر وإناء من لبن فاخترت اللبن فيه اختصار والتقدير، قال لي اختر فاخترت اللبن وهو قول جبريل اخترت الفطرة يعني فطرة الإسلام، وجعل اللبن علامة للفطرة الصحيحة السليمة لكونه سهلاً طيباً سائغاً للشاربين وأنه سليم العاقبة، بخلاف الخمر فإنها أم الخبائث وجالبة لأنواع الشر‏.‏ قوله‏:‏ ثم عرج بي حتى أتى السماء الدنيا فاستفتح جبريل فقيل‏:‏ من أنت قال‏:‏ جبريل فيه بيان الأدب لمن استأذن وأن يقول‏:‏ أنا فلان ولا يقول‏:‏ أنا فإنه مكروه وفيه أن للسماء أبواباً وبوابين وأن عليها حرساً وقول بواب السماء وقد أرسل إليه، وفي الرواية الأخرى وقد بعث إليه معناه للإسراء وصعوده السماء وليس مراده الاستفهام عن أصل البعثة والرسالة، فإن ذلك لا يخفى عليه إلى هذه المدة هذا هو الصحيح في معناه، وقيل غيره وقوله فإذا أنا بآدم وذكر جماعة من الأنبياء فيه استحباب لقاء أهل الفضل والصلاح بالبشر والترحيب والكلام اللين الحسن، وإن كان الزائر أفضل من المزور وفيه جواز مدح الإنسان في وجهه إذا أمن عليه من الإعداب وغيره من أسباب الفتنة وقوله فإذا بإبراهيم مسنداً ظهره إلى البيت المعمور فيه دليل على جواز الاستناد إلى القبلة، وتحويل ظهره إليها‏.‏ وقوله ثم ذهب بي إلى السدرة هكذا، وقع في هذه الرواية السدرة الألف واللام وفي باقي الروايات إلى سدرة المنتهى قال ابن عباس وغيره من المفسرين‏:‏ سميت بذلك لأن علم الملائكة ينتهي إليها‏.‏ ولم يجاوزها أحد غير رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال ابن مسعود‏:‏ سميت بذلك لكونها ينتهي إليها ما يهبط من فوقها، وما يصعد من تحتها من أمر الله عز وجل وقوله وإذا ثمرها كالقلال، هو بكسر القاف جمع قلة بضمها، وهي الجرة الكبيرة التي تسع قربتين أو أكثر قوله فرجعت إلى ربي‏.‏ قال الشيخ محيي الدين النووي‏:‏ معناه رجعت إلى الموضع الذي ناجيته فيه أولاً فناجيته فيه ثانياً وقوله‏:‏ فلم أزل أرجع بين موسى وبين ربي معناه وبين موضع مناجاة ربي عز وجل‏.‏

قلت‏:‏ وأما الكلام على معنى الرؤية وما يتعلق بها فإنه سيأتي إن شاء الله تعالى في تفسير سورة النجم، عند قوله تعالى ثم دنا فتدلى قوله ففرض الله سبحانه وتعالى على أمتي خمسين صلاة إلى قوله فوضع شطرها وفي الرواية الأخرى فوضع عني عشراً وفي الأخرى خمساً ليس بين هذه الرواية منافاة، لأن المراد بالشطر الجزء وهو الخمس، وليس المراد منه التصنيف، وأما رواية العشر فهي رواية شريك ورواية الخمس رواية ثابت البناني وقتادة، وهما أثبت من شريك فالمراد حط عني خمساً إلى آخره ثم قال‏:‏ خمس وهن خمسون يعني خمسين في الأجر والثواب لأن الحسنة بعشر أمثالها، واحتج العلماء بهذا الحديث على جواز نسخ الشيء قبل فعله وفي أول الحديث أنه شق صدره صلى الله عليه وسلم ليلة المعراج، وقد شق أيضاً في صغره وهو عند حليمة التي كانت ترضعه، فالمراد بالشق الثاني زيادة التطهير لمن يراد به من الكرامة ليلة المعراج‏.‏ وقوله‏:‏ أتيت بطست من ذهب، قد يتوهم متوهم أنه يجوز استعمال إناء الذهب لنا وليس الأمر كذلك لأن هذا الفعل من فعل الملائكة، وهو مباح لهم استعمال الذهب أو يكون هذا قد كان قبل تحريمه وقوله ممتلئ إيماناً وحكمة فأفرغها في صدري‏.‏ فان قلت الحكمة والإيمان معان والإفراغ صفة الإجسام، فما معنى ذلك‏؟‏ قلت‏:‏ يحتمل أنه جعل في الطست شيء يحصل به كمال الإيمان والحكمة وزيادتهما، فسمي إيماناً وحكمة لكونه سبباً لهما وهذا من أحسن المجاز‏.‏ وقوله في صفة آدم عليه السلام‏:‏ فإذا رجل عن يمينه أسودة وعن يساره أسودة هو جمع سواد، وقد فسره في الحديث بأنه نسم بنيه يعني أرواح بنيه وقد اعترض على هذا، بأن أرواح المؤمنين في السماء وأرواح الكفار تحت الأرض السفلى فكيف تكون في السماء والجواب عنه أنه يحتمل أن أرواح الكفار، تعرض على آدم عليه السلام، وهو في السماء فوافق وقت عرضها على آدم مرور النبي صلى الله عليه وسلم فأخبر بما رأى‏.‏ وقوله‏:‏ فإذا نظر عن يمينه ضحك، وإذا نظر عن شماله بكى فيه شفقة الوالد على أولاده وسروره وفرحه بحسن حال المؤمن منهم، وحزنه على سوء حال الكفار منهم‏.‏ وقوله في إدريس مرحباً بالنبي الصالح والأخ الصالح قد اتفق المؤرخون على إن إدريس، هو أخنوخ وهو جد نوح عليهما السلام فيكون جد النبي صلى الله عليه وسلم كما أن إبراهيم جده، فكان ينبغي أن يقول بالنبي الصالح والابن الصالح كما قال آدم وإبراهيم عليهما السلام‏:‏ فالجواب عن هذا أنه قيل‏:‏ إن إدريس المذكور هنا هو إلياس، وهو من ذرية إبراهيم فليس هو جد نوح هذا جواب القاضي عياض‏.‏

قال الشيخ محيي الدين‏:‏ ليس في الحديث ما يمنع كون إدريس أباً لنبينا محمد صلى الله عليه وسلم وإن قوله‏:‏ الأخ الصالح يحتمل إن يكون قاله تلطفاً وتأدباً، وهو أخ وإن كان أباً لأن الأنبياء إخوة المؤمنون إخوة والله أعلم‏.‏

فصل

في ذكر الآيات التي ظهرت بعد المعراج الدالة على صدقه صلى الله عليه وسلم وسياق أحاديث تتعلق بالإسراء قال البغوي؛ روي أنه لما رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة أسرى به وكان بذي طوى قال‏:‏ يا جبريل إن قومي لا يصدقون‏.‏ قال‏:‏ يصدقك أبو بكر وهو الصديق‏.‏ قال ابن عباس وعائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ «لما كانت ليلة أسري بي إلى السماء أصبحت بمكة فضقت بأمري وعرفت أن الناس يكذبوني فروي أنه صلى الله عليه وسلم قعد معتزلاً حزيناً، فمر به أبو جهل فجلس إليه فقال كالمستهزئ هل استفدت من شيء‏؟‏ قال‏:‏ نعم أسري بي الليلة قال إلى إين قال إلى بيت المقدس قال‏:‏ ابو جهل‏:‏ ثم أصبحت بين أظهرنا‏؟‏ قال‏:‏ نعم فلم يرد أبو جهل أن ينكر ذلك مخافة أن يجحده الحديث، ولكن قال‏:‏ أتحدث قومك بما حدثتني به‏.‏ قال‏:‏ نعم‏.‏ قال أبو جهل‏:‏ يا معشر بني كعب بن لؤي هلموا، فانقضت المجالس وجاؤوا حتى جلسوا إليهما قال‏:‏ حدث قومك بما حدثتني قال‏:‏ نعم أسري بي الله قالوا إلى أين‏؟‏ قال‏:‏ إلى بيت المقدس قالوا ثم أصبحت بين أظهرنا‏؟‏ قال‏:‏ نعم قال فبقي الناس بين مصفق وبين واضع يده على رأسه متعجباً وارتد أناس ممن كان قد آمن به وصدقه، وسعى رجل من المشركين إلى أبي بكر فقال له هل لك في صاحبك يزعم أنه أسري به الليلة إلى بيت المقدس قال‏:‏ أو قد قال ذلك قال نعم قال لئن كان قال ذلك لقد صدق قالوا‏:‏ أو تصدقه أنه ذهب إلى بيت المقدس وجاء في ليلة قبل أن يصبح‏؟‏ قال‏:‏ نعم إني أصدقه بما هو أبعد من ذلك أصدقه بخبر السماء في غدوة أو روحة فلذلك سمي أبو بكر الصديق‏.‏ قال‏:‏ وكان في القوم من أتى المسجد الأقصى‏.‏ قالوا‏:‏ هل تستطيع أن تنعت لنا المسجد قال‏:‏ نعم قال فذهبت أنعت حتى التبس علي قال فجيء بالمسجد وأنا أنظر إليه حتى وضع دون دار عقيل فنعت المسجد وأنا أنظر إليه، فقال القوم‏:‏ أما النعت فوالله لقد أصاب فيه ثم قالوا يا محمد أخبرنا عن عيرنا فهي أهم إلينا هل لقيت منها شيئاً‏؟‏ قال‏:‏ نعم مررت بعير بني فلان وهي بالروحاء وقد أضلوا بعيراً وهم في طلبه، وفي رحالهم قدح من ماء فعطش فأخذته فشربته، ثم وضعته كما كان فسلوا هل وجدوا الماء في القدح حين رجعوا قالوا‏:‏ هذه آية قال ومررت بعير بني فلان وفلان راكبان قعوداً لهما بذي طوى فنفر بعيرهما مني فرمى بفلان فانكسرت يده فسلوهما عن ذلك قالوا وهذه آية أخرى قالوا‏:‏ فأخبرنا عن عيرنا قال مررت بها بالتنعيم قالوا فما عدتها وأحمالها وهيئتها‏؟‏ فقال‏:‏ كنت في شغل عن ذلك ثم مثلت له بعدتها وأحمالها وهيئتها ومن فيها وكانوا بالحزورة قال‏:‏ نعم هيئتها كذا وكذا وفيها فلان وفلان يقدمها جمل أورق عليه غرارتان مخيطتان تطلع عليكم عند طلوع الشمس»

قالوا‏:‏ وهذه آية‏.‏ ثم خرجوا يشتدون نحو الثنية وهم يقولون والله لقد قص محمد شيئاً وبينه حتى أتوا كداء فجلسوا عليه فجعلوا ينظرون متى تطلع الشمس فيكذبونه إذ قال قائل منهم‏:‏ هذه الشمس قد طلعت‏.‏ وقال آخر‏:‏ وهذه العير قد طلعت يقدمها بعير أورق فيه فلان وفلان كما قال‏:‏ فلم يؤمنوا وقالوا‏:‏ هذا سحر مبين ‏(‏م‏)‏ عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «لقد رأيتني في الحجر وقريش تسألني عن مسراي، فسألتني عن أشياء من بيت المقدس لم أثبتها فكربت كربة ما كربت مثلها قط‏.‏ قال‏:‏ فرفعه الله لي أنظر إليه ما يسألوني عن شيء إلا أنبأتهم به وقد رأيتني في جماعة من الأنبياء فإذا موسى قائم يصلي فإذا رجل ضرب جعداً كأنه من رجال شنوءة وإذا عيسى ابن مريم قائم يصلي أقرب الناس به شبهاً عروة بن مسعود الثقفي، وإذا إبراهيم قائم يصلي أشبه الناس به صاحبكم يعني به نفسه صلى الله عليه سلم فحانت الصلاة فأممتهم فلما فرغت من الصلاة قال لي قائل‏:‏ يا محمد يا محمد هذا مالك صاحب النار، فسلم عليه فالتفتُّ إليه فبدأني بالسلام» ‏(‏ق‏)‏ عن جابر أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ «لما كذبتني قريش قمت إلى الحجر فجلى الله إلي بيت المقدس فطفقت أخبرهم عن آياته وأنا أنظر إليه زاد البخاري في رواية‏:‏ لما كذبني قريش حين أسري بي إلى المقدس» وذكر الحديث ‏(‏م‏)‏ عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ «أتيت على موسى ليلة أسري بي عند الكثيب الأحمر، فإذا هو قائم يصلي في قبره» عن بريدة قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «لما انتهينا إلى بيت المقدس قال جبريل كذا بأصبعه فخرق به الحجر وشد به البراق» أخرجه الترمذي‏.‏ فإن قلت‏:‏ كيف رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم موسى يصلي في قبره وكيف صلى بالأنبياء في بيت المقدس ثم وجدهم على مراتبهم في السموات، وسلموا عليه وترحبوا به وكيف تصح الصلاة من الأنبياء بعد الموت، وهم في الدار الآخرة‏؟‏ قلت أما صلاته صلى الله عليه وسلم بالأنبياء في بيت المقدس يحتمل أن الله سبحانه وتعالى، جمعهم له ليصلي بهم ويعرفوا فضله وتقدمه عليهم ثم إن الله سبحانه وتعالى، أراه إياهم في السموات على مراتبهم ليعرف هو مراتبهم وأما مروره بموسى، وهو قائم يصلي في قبره عند الكثيب الأحمر، فيحتمل أنه كان بعد رجوعه من المعراج، وأما صلاة الأنبياء وهم في الدار الآخرة فهم في حكم الشهداء بل أفضل منهم، وقد قال الله سبحانه وتعالى‏:‏ ولاتحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتاً بل أحياء فالأنبياء أحياء بعد الموت، وأما حكم صلاتهم فيحتمل أنها الذكر والدعاء وذلك من أعمال الآخرة فإن الله تعالى قال

‏{‏دعواهم فيها سبحانك اللهم‏}‏ وورد في الحديث أنهم يلهمون التسبيح كما يلهمون النفس، ويحتمل أن الله سبحانه وتعالى خصّهم بخصائص في الآخرة كما خصهم في الدنيا بخصائص لم يخص بها غيرهم‏.‏ منها أنه صلى الله عليه وسلم أخبر أنه رآهم يلبون، ويحجون، فكذلك الصلاة والله أعلم بالحقائق‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏2- 7‏]‏

‏{‏وَآَتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِبَنِي إِسْرَائِيلَ أَلَّا تَتَّخِذُوا مِنْ دُونِي وَكِيلًا ‏(‏2‏)‏ ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا شَكُورًا ‏(‏3‏)‏ وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا ‏(‏4‏)‏ فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولَاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُوا خِلَالَ الدِّيَارِ وَكَانَ وَعْدًا مَفْعُولًا ‏(‏5‏)‏ ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْنَاكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيرًا ‏(‏6‏)‏ إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآَخِرَةِ لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيرًا ‏(‏7‏)‏‏}‏

‏{‏وَآتَيْنَآ مُوسَى الكتاب وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِّبَنِي إِسْرَائِيلَ أَلاَّ تَتَّخِذُواْ مِن دُونِي وَكِيلاً ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ كَانَ عَبْداً شَكُوراً وَقَضَيْنَآ إلى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الكتاب لَتُفْسِدُنَّ فِي الأرض مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوّاً كَبِيراً‏}‏

‏{‏وآتينا موسى الكتاب‏}‏ يعني التوراة ‏{‏هدى لبني إسرائيل ألا تتخذوا‏}‏ يعني وقلنا لهم‏:‏ لا تتخذوا ‏{‏من دوني وكيلاً‏}‏ يعني رباً كفيلاً ‏{‏ذرية‏}‏ يعني يا ذرية ‏{‏من حملنا مع نوح إنه كان عبداً شكوراً‏}‏ يعني أن نوحاً كان كثير الشكر، وذلك أنه كان إذا أكل طعاماً أو شرب شراباً ولبس ثوباً قال‏:‏ الحمد لله فسماه الله عبداً شكوراً لذلك‏.‏ وقوله عز وجل ‏{‏وقضينا إلى بني إسرائيل في الكتاب‏}‏‏:‏ يعني أعلمناهم وأخبرناهم فيما آتيناهم من الكتاب أنهم سيفسدون وهو قوله تعالى ‏{‏لتفسدن في الأرض مرتين‏}‏ وقال ابن عباس‏:‏ وقصينا عليهم في الكتاب فإلى بمعنى على، والمراد بالكتاب اللوح المحفوظ واللام في لتفسدن لام القسم تقديره والله لتفسدن في الأرض يعني بالمعاصي والمراد بالأرض أرض الشام، وبيت المقدس ‏{‏ولتعلن‏}‏ يعني ولتستكبرن ولتظلمن الناس ‏{‏علواً كبيراً فإذا جاء وعد أولاهما‏}‏ يعني أولى المرتين قيل‏:‏ إفسادهم في المرة الأولى هو ما خالفوا من أحكام التوراة، وركبوا من المحارم وقيل‏:‏ إفسادهم في المرة الأولى قتلهم شعياء في الشجرة وارتكابهم المعاصي ‏{‏بعثنا عليكم عباداً لنا‏}‏ يعني جالوت وجنوده، هو الذي قتله داود وقيل‏:‏ هو سنحاريب وهو من أهل نينوى وقيل هو بختنصر البابلي وهو الأصح ‏{‏أولي بأس شديد‏}‏ يعني ذوي بطش وقوة في الحرب ‏{‏فجاسوا خلال الديار‏}‏ يعني طافوا بين الديار وسطها يطلبونكم ليقتلونكم ‏{‏وكان وعداً مفعولاً‏}‏ يعني قضاء كائناً لازماً لا خلف فيه ‏{‏ثم رددنا لكم الكرة عليهم‏}‏ يعني رددنا لكم الدولة والغلبة على الذين بعثوا عليكم، وحين تبتم من ذنوبكم ورجعتم عن الفساد ‏{‏وأمددناكم بأموال وبنين وجعلناكم أكثر نفيراً‏}‏ يعني أكثر عدداً ‏{‏إن أحسنتم أحسنتم لأنفسكم‏}‏ يعني لها ثواباً وجزاء إحسانها ‏{‏وإن أسأتم فلها‏}‏ يعني فعليها إساءتها ‏{‏فإذا جاء وعد الآخرة‏}‏ يعني المرة الآخرة من إفسادكم وهو قصدكم قتل عيسى فخلصه الله منهم، ورفعه إليه، وقتلوا زكريا ويحيى عليهما السلام، فسلط عليهم الفرس والروم فسبوهم وقتلوهم وهو قوله تعالى ‏{‏ليسوءوا وجوهكم‏}‏ يعني ليحزنوكم وقرئ بالنون أي ليسوء الله وجوهكم ‏{‏وليدخلوا المسجد‏}‏ يعني بيت المقدس ونواحيه ‏{‏كما دخلوه أول مرة‏}‏ يعني وقت إفسادهم الأول ‏{‏وليتبروا ما علوا تتبيراً‏}‏ يعني وليهلكوا ما غلبوا عليه من بلاد بني إسرائيل إهلاكاً‏.‏

ذكر القصة في هذه الآية

قال محمد بن إسحاق‏:‏ كانت بنو إسرائيل فيهم الأحداث والذنوب وكان الله في ذلك متجاوزاً عنهم ومحسناً إليهم وكان أول ما نزل بسبب ذنوبهم أن ملكاً منهم كان يدعى صديقة وكان الله إذا ملّك عليهم الملك بعث معه نبياً ليسدده ويرشده، ولا ينزل عليهم كتاباً إنما يؤمرون اتباع التوراة والأحكام التي فيها، فلما ملك صديقة بعث الله معه شعياء وذلك قبل مبعث زكريا ويحيى وشعياء هو الذي بشر بعيسى ومحمد صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ أبشري أورشليم الآن يأتيك راكب الحمار ومن بعده صاحب البعير‏.‏

فملك ذلك الملك يعني صديقة بني إسرائيل وبيت المقدس زماناً، فلما انقضى ملكه عظمت الأحداث فيهم وكان معه شعياء فبعث الله سنجاريب ملك بابل ومعه ستمائة ألف راية، فلم يزل سائراً حتى نزل حول بيت المقدس، والملك مريض من قرحة كانت في ساقه، فجاء شعياء النبي إليه، وقال‏:‏ يا ملك بني إسرائيل إن سنحاريب ملك بابل، قد نزل بك هو وجنوده‏؟‏ بستمائة ألف راية، وقد هابهم الناس وفرقوا منهم فكبر ذلك على الملك وقال‏:‏ يا نبي الله هل أتاك من الله وحي فيما حدث فتخبرنا به وكيف يفعل الله بنا وبسنجاريب وجنوده فقال شعياء‏:‏ لم يأتني وحي في ذلك فبينما هم على ذلك أوحى الله إلى شعياء النبي، أن أئت ملك بني إسرائيل فمره أن يوصي وصيته، ويستخلف على ملكه من يشاء من أهل بيته فأتى شعياء ملك بني إسرائيل وقال‏:‏ إن ربك قد أوحى إلي أن آمرك أن توصي وصيتك وتستخلف من شئت على ملكك من أهل بيتك فإنك ميت، فلما قال ذلك شعياء لصديقة الملك أقبل على القبلة فصلى ودعا فقال وهو يبكي ويتضرع إلى الله تعالى بقلب مخلص‏:‏ اللهم رب الأرباب وإله الآلهة يا قدوس يا متقدس يا رحمن يا رحيم يا رؤوف، يا من لا تأخذه سنة ولا نوم اذكرني بعملي وفعلي وحسن قضائي على بني إسرائيل، وذلك كله كان منك وأنت أعلم به مني سري وعلانيتي لك‏.‏ فاستجاب الله له وكان عبداً صالحاً فأوحى الله إلى شعياء أن يخبر صديقة أن ربه قد استجاب له ورحمه، وأخر أجله خمس عشرة سنة وأنجاه من عدوه سنجاريب فأتاه شعياء فأخبره، فلما قال له ذلك ذهب عنه الوجع وانقطع عنه الحزن وخر ساجداً لله وقال‏:‏ إلهي وإله آبائي لك سجدت وسبحت وكبرت وعظمت أن الذي تعطي الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء، وتعز من تشاء وتذل من تشاء على الغيب والشهادة أنت الأول والآخر والظاهر والباطن، وأنت ترحم وتستجيب دعوة المضطرين أنت الذي أجبت دعوتي ورحمت تضرعي، فلما رفع رأسه أوحى الله إلى شعياء أن قل للملك صديقة فيأمر عبداً من عبيده، فيأتيه بماء التين فيجعله على قرحته فيشفى فيصبح وقد برأ ففعل ذلك فشفي فقال الملك لشيعاء‏:‏ سل ربك أن يجعل لنا علماً بما هو صانع بعدونا هذا‏.‏

قال الله لشعياء‏:‏ قل له إني قد كفيتك عدوك وأنجيتك منهم، وأنهم سيصبحون موتى كلهم إلا سنحاريب، وخمسة نفر من كتابه أحدهم بختنصر‏.‏ فلما أصبحوا جاء صارخ يصرخ على باب المدينة يا ملك بني إسرائيل إن الله كفاك عدوك، فاخرج فإن سنحاريب ومن معه هلكوا فخرج الملك، والتمس سنحاريب فلم يوجد في الموتى فبعث الملك في طلبه فأدركه الطلب في مفازة ومعه خمسة نفر من كتابه، أحدهم بختنصر فجعلوهم في الجوامع ثم أتوا بهم الملك فلما رآهم خر ساجداً لله تعالى، من حين طلعت الشمس إلى العصر ثم قال لسنحاريب‏:‏ كيف رأيت فعل ربنا بكم ألم يقتلكم بحوله وقوته ونحن وأنتم غافلون‏؟‏ فقال سنجاريب‏:‏ قد أتاني خبر ربكم ونصره إياكم ورحمته التي يرحمكم بها قبل أن أخرج من بلادي فلم أطع مرشداً ولم يلقني في الشقوة إلا قلة عقلي ولو سمعت أو عقلت ما غزوتكم فقال الملك صديقة‏:‏ الحمد لله رب العالمين الذي كفاناكم بما شاء، وإن ربنا لم يمتعك ومن معك لكرامتك عليه، ولكنه إنما أبقاك ومن معك لتزدادوا شقوة في الدنيا وعذاباً في الآخرة ولتخبروا من وراءكم بما رأيتم من فعل ربنا بكم، فتنذروا من بعدكم ولولا ذلك لقتلك ومن معك ولدمك ودم من معك أهون على الله من دم قراد لو قتلت‏.‏ ثم إن ملك بني إسرائيل أمر أمير حرسه أن يقذف في رقابهم الجوامع، ففعل وطاف بهم سبعين يوماً حول بيت المقدس وإيلياء، وكان يرزقهم في كل يوم خبزين من شعير لكل رجل منهم فقال سنحاريب للملك صديقة‏:‏ القتل خير مما نحن فيه وما تفعل بنا فأمر بهم إلى السجن فأوحى الله إلى شعياء النبي أن قل لملك بني إسرائيل يرسل سنحاريب ومن معه لينذروا من وراءهم وليكرمهم وليحملهم حتى يبلغوا بلادهم‏.‏ فبلغ ذلك شعياء للملك ففعل وخرج سنحاريب ومن معه، حتى قدموا بابل فلما قدم جمع الناس فأخبرهم كيف فعل الله تعالى بجنوده فقال له كهانه وسحرته‏:‏ يا ملك بابل قد كنا نقص عليك خبر ربهم وخبر نبيهم ووحي الله إلى نبيهم، فلم تطعنا وهي أمة لا يستطيعها أحد مع ربهم وكان أمر سنحاريب تخويفاً لبني إسرائيل، ثم كفاهم الله تعالى ذلك تذكره وعبرة ثم إن سنحاريب لبث بعد ذلك سبع سنين، ثم مات، واستخلف على ملكه بختنصر ابن عمه فعمل بعمله وقضى بقضائه فلبث سبع عشر سنة ثم قبض الله ملك بني إسرائيل صديقة فمرج أمر بني إسرائيل وتنافسوا الملك حتى قتل بعضهم بعضاً، وشعياء نبيهم معهم لا يقبلون منه فلما فعلوا ذلك، قال الله لشعياء‏:‏ قم في قومك حتى أوحي على لسانك‏.‏ فلما قام أطلق الله لسانه بالوحي فقال‏:‏ يا سماء استمعي ويا أرض أنصتي، فإن الله يريد أن يقص شأن بني إسرائيل الذين رباهم بنعمته واصطفاهم لنفسه وخصهم بكرامته، وفضلهم على عباده وهم كالغنم الضائعة التي لا راعي لها، فآوى شاردتها وجمع ضالتها وجبر كسيرها وداوى مريضها، وأسمن مهزولها وحفظ سمينها، فلما فعل ذلك بطرت فتناطحت كباشها فقتل بعضها بعضاً، حتى لم يبق منها عظم صحيح يجبر إليه آخر، فويل لهذه الأمة الخاطئة الذين لايدرون أنى جاءهم الحين‏.‏

إن البعير مما يذكر وطنه فينتابه وأن الحمار مما يذكر الأرى الذي يشبع عليه فيراجعه وأن الثور مما يذكر المرج الذي سمن فيه فينتابه وإن هؤلاء القوم لا يذكرون من حيث جاءهم الخير، وهم أولو الألباب والعقول ليسوا ببقر ولا حمير وإني ضارب لهم مثلاً فليسمعوه، قل كيف ترون في أرض كان خراباً زماناً لا عمران فيها، وكان لها رب حكيم قوي فأقبل عليها بالعمارة، وكره أن تخرب أرضه وهو قوي أو يقال‏:‏ ضيع وهو حكيم فأحاط عليها جداراً وشيد فيها قصراً وأنبط فيها نهراً وصفّ فيه غراساً من الزيتون والرمان والنخيل والأعناب وألوان الثمار كلها، وولى ذلك واستحفظه قيّماً ذا رأي وهمة حفيظاً قوياً فلما أطلعت جاء طلعها خروباً‏.‏ فقالوا‏:‏ بئست الأرض هذه فنرى أن يهدم جدارها وقصرها ويدفن نهرها، ويقبض قيّمها ويحرق غراسها حتى تصير كما كانت أول مرة خراباً مواتاً، لا عمران فيها قال الله تعالى‏:‏ قل لهم الجدار ديني والقصر شريعتي وإن النهر كتابي وأن القيّم نبيي وأن الغراس هم، وأن الخروب الذي أطلع الغراس أعمالهم الخبيثة وإني قد قضيت عليهم قضاءهم على أنفسهم، وأنه مثل ضربته لهم يتقربون إليّ بذبح البقر والغنم، وليس ينالني اللحم ولا آكله ويدّعون أن يتقربوا إلي بالتقوى والكف عن ذبح الأنفس التي حرمتها، وأيديهم مخضوبة منها وثيابهم متزملات بدمائها يشيدون لي البيوت مساجد، ويطهرون أجوافها وينجسون قلوبهم وأجسادهم، ويدنسونها ويزوقون لي المساجد ويزينونها، ويخربون عقولهم وأخلاقهم ويفسدونها فأي حاجة لي إلى تشييد البيوت ولست أسكنها، وأي حاجة إلى تزويق المساجد ولست أدخلها إنما أمرت برفعها لأذكر وأسبح فيها‏.‏ يقولون‏:‏ صمنا فلم يرفع صيامنا وصلينا فلم تنور صلاتنا، وتصدقنا فلم تزكَّ صدقتنا، ودعونا بمثل حنين الحمام وبكينا بمثل عواء الذئاب في كل ذلك لا يستجاب لنا، قال الله‏:‏ فاسألهم ما الذي يمنعني أن أستجيب لهم ألست أسمع السامعين، وأبصر الناظرين وأقرب المجيبين وأرحم الراحمين فكيف أرفع صيامهم وهم يلبسونه بقول الزور، ويتقوون عليه بطعمة الحرام أم كيف أنور صلاتهم وقلوبهم صاغية إلى من يحاربني ويحادني وينتهك محارمي، أم كيف تزكو عندي صدقاتهم وهم يتصدقون بأموال غيرهم إنما آجر عليها أهلها المغصوبين أم كيف أستجيب لهم دعاءهم وإنما هو قولهم بألسنتهم، والفعل من ذلك بعيد وإنما أستجيب للداعي اللين، وإنما أستمع قول المستضعف المستكين، وان من علامة رضاي رضى المساكين يقولون لما سمعوا كلامي وبلغتهم رسالتي‏:‏ إنها أقاويل منقولة، وأحاديث متواترة وتآليف مما تؤلف السحرة والكهنة، وزعموا أنهم لو شاؤوا أن يأتوا بحديث مثله فعلوا، ولو شاؤوا أن يطلعوا على علم الغيب بما توحي إليهم الشياطين اطلعوا، وإني قد قضيت يوم خلقت السموات والأرض قضاء أثبته وحتمته على نفسي وجعلت دونه أجلاً مؤجلاً لا بد أنه واقع فإن صدقوا فيما ينتحلون من علم الغيب، فليخبروك متى أنفذه أو في أي زمان يكون وإن كانوا يقدرون على أن يأتو بما يشاؤون فليأتوا بمثل هذه القدرة التي بها أمضيت فإني مظهره على الدين كله ولو كره المشركون، وإن كانوا يقدرون على أن يؤلفوا ما يشاؤون فيؤلفوا مثل هذه الحكمة التي أدبر بها ذلك القضاء، إن كانوا صادقين وإني قد قضيت يوم خلقت السماء والأرض، أن أجعل النبوة في الأجراء، وأن أجعل الملك في الرعاء والعز في الأذلاء والقوة في الضعفاء والغنى في الفقراء، والعلم في الجهلة والحكمة في الأميين فسلهم متى هذا ومن القائم بهذا، ومن أعوان هذا الأمر وأنصاره إن كانوا يعلمون وإني باعث لذلك نبياً أمياً ليس أعمى من عميان، ولا ضالاً من ضالين وليس بفظ ولا غليظ ولا صخاب في الأسواق ولا مترين بالفحش، ولا قوال للخنا أسدده بكل جميل وأهب له كل خلق كريم أجعل السكينة لباسه، والبر شعاره والتقوى ضميره والحكمة معقولة والصدق والوفاء طبيعته والعفو والمعروف خلقه، والعدل سيرته والحق شريعته والهدى إمامه والإسلام ملته وأحمد اسمه أهدي به بعد الضلالة، وأعلم به بعد الجهالة وأرفع به بعد الخمالة وأشهر به بعد النكرة، وأكثر به القلة وأغني به بعد العيلة، وأجمع به بعد الفرقة وأؤلف به بين قلوب مختلفة وأهواء متشتتة وأمم متفرقة، وأجعل أمته خير أمة أخرجت للناس يأمرون بالمعروف، وينهون عن المنكر توحيداً لي وإيماناً بي وإخلاصاً لي يصلون قياماً وقعوداً، وركعاً وسجوداً، ويقاتلون في سبيلي صفوفاً وزحوفاً، ويخرجون من ديارهم وأموالهم ابتغاء مرضاتي ألهمهم التكبير، والتوحيد والتسبيح والتحميد والتهليل والمدحة والتمجيد لي في مسيرهم ومجالسهم، ومضاجعهم ومتقلبهم ومثواهم يكبرون ويهللون ويقدسون على رؤوس الأشراف يطهرون لي، الوجوه والأطراف ويعقدون لي الثياب على الأنصاف قربانهم دماؤهم، وأناجيلهم في صدورهم رهبان بالليل ليوث بالنهار ذلك فضلي أوتيه من أشاء أنا ذو الفضل العظيم‏.‏

فلما فرغ شعياء من مقالته عدوا عليه ليقلتوه فهرب منهم فلقيته شجرة، فانفلقت له فدخل فيها فأدركه الشيطان، فأخذ بهدبة من ثوبه فأراهم إياها فوضعوا المنشار في وسطها فنشروها حتى قطعوها، وقطعوه في وسطها واستخلف الله على بني إسرائيل بعد ذلك رجلاً منهم يقال‏:‏ ناشة بن أموص وبعث لهم أرمياء بن حلقيا نبياً، وكان من سبط هرون بن عمران، وذكر ابن إسحاق أنه الخضر واسمه أرمياء الخضر لأنه جلس على فروة بيضاء، فقام عنه وهي تهتز خضراء فبعث الله أرمياء إلى ذلك الملك ليسدده ويرشده، ثم عظمت الأحداث في بني إسرائيل، وركبوا المعاصي واستحلوا المحارم فأوحى الله إلى أرمياء، أن ائت قومك من بني إسرائيل فاقصص عليهم ما آمرك به وذكرهم نعمي وعرفهم بأحداثهم‏.‏

فقال أرمياء‏:‏ يا رب إني ضعيف إن لم تقوني عاجز إن لم تبلغني مخذول إن لم تنصرني قال الله تعالى‏:‏ أو لم تعلم أن الأمور كلها تصدر عن مشيئتي وأن القلوب والألسنة بيدي، أقلبها كيف شئت إني معك، ولن يصل إليك شيء معي فقام أرمياء فيهم، ولم يدر ما يقول فألهمه الله عز وجل في الوقت خطبة بليغة بين لهم فيها ثواب الطاعة، وعقاب المعصية وقال في آخرها‏:‏ عن الله عز وجل حلفت بعزتي لأقيضن لهم فتنة يتحير فيها الحليم، ولأسلطن عليهم جباراً قاسياً ألبسه الهيبة، وأنزع من صدره الرحمة يتبعه عدد مثل سواد الليل المظلم، ثم أوحى الله إلى أرمياء أني مهلك بني إسرائيل بيافث ويافث من أهل بابل فسلط عليهم بختنصر فخرج من ستمائة ألف راية ودخل بيت المقدس بجنوده ووطئ الشام وقتل بني إسرائيل حتى أفناهم وخرب بيت المقدس وأمر جنده أن يملأ كل رجل منهم ترسه تراباً، يقذفه في بيت المقدس ففعلوا ذلك حتى ملؤوه‏.‏ ثم أمرهم أن يجمعوا من بلدان بيت المقدس كلهم، فاجتمع عنده كل صغير وكبير من بني إسرائيل فاختار منهم سبعين ألف صبي، فلما خرجت غنائم جنده وأراد أن يقسمها فيهم، قالت له الملوك الذين كانوا معه‏:‏ أيها الملك لك غنائمنا كلها واقسم بيننا هؤلاء الصبيان الذي اخترتهم من بني إسرائيل، فقسمهم بين الملوك الذين كانوا معه فأصاب كل رجل منهم أربعة غلمان، وفرق من بقي من بني إسرائيل ثلاث فرق ثلثاً أقرهم بالشام وثلثاً سباهم وثلثاً قتلهم وذهب باناث بيت المقدس، وبالصبيان السبعين ألفاً حتى أقدمهم بابل فكانت هذه الوقعة الأولى التي أنزل الله عز وجل ببني إسرائيل بظلمهم فذلك قوله سبحانه وتعالى‏:‏

‏{‏فَإِذَا جَآءَ وَعْدُ أُولاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَاداً لَّنَآ أُوْلِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُواْ خِلاَلَ الديار وَكَانَ وَعْداً مَّفْعُولاً ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الكرة عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْنَاكُم بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيراً إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا فَإِذَا جَآءَ وَعْدُ الآخرة لِيَسُوءُواْ وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُواْ المسجد كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُواْ مَا عَلَوْاْ تَتْبِيراً‏}‏‏.‏

‏{‏فإذا جاء وعد أولاهما بعثنا عباداً لنا أولي بأس شديد‏}‏ يعني بختنصر وأصحابه، ثم إن يختنصر أقام في سلطانه ما شاء ثم رأى رؤيا عجيبة إذا رأى شيئاً أصابه فأنساه الذي رأى فدعا دانيال وحنانيا وعزاريا ومشائيل وكانا من ذراري الأنبياء، وسألهم عنها فقالوا‏:‏ أخبرنا بها نخبرك بتأويلها فقال‏:‏ ما أذكرها ولئن لم تخبرني بها وبتأويلها لأنزعن أكتافكم فخرجوا من عنده، فدعوا الله وتضرعوا إليه فأعلمهم الله بالذي سألهم عنه فجاؤوه فقالوا‏:‏ رأيت تمثالاً قدماه وساقاه من فخار وركبتاه وفخذاه من نحاس وبطنه من فضة وصدره من ذهب، ورأسه وعنقه من حديد قال‏:‏ صدقتم قالوا‏:‏ فبينما أنت تنظر إليه وقد أعجبك أرسل الله صخرة من السماء فدقته فهي التي أنستكها قال‏:‏ صدقتم فما تأويلها قالوا‏:‏ تأويلها أنك رأيت الملوك بعضهم كان ألين ملكاً، وبعضهم، كان أحسن ملكاً وبعضهم كان أشد ملكاً، والفخار أضعفه ثم فوقه النحاس أشد منه ثم فوق النحاس الفضة أحسن من ذلك وأفضل والذهب أحسن من الفضة، وأفضل ثم الحديد ملكك فهو أشد وأعز مما قبله، والصخرة التي رأيت أرسل الله من السماء فدقته فنبي يبعثه الله من السماء فيدق ذلك أجمع ويصير الأمر إليه، ثم إن أهل بابل قالوا لبختنصر‏:‏ أرأيت هؤلاء الغلمان من بني إسرائيل الذين سألناك أن تعطيناهم ففعلت فإنا قد أنكرنا نساءنا منذ كانوا معنا، لقد رأينا نساءنا انصرفت وجوههن عنا إليهم فأخرجهم من بين أظهرنا أو اقتلهم فقال شأنك بهم فمن أحب منكم أن يقتل من كان في يده، فليفعل فلما قربوهم للقتل بكوا وتضرعوا إلى الله عز وجل، وقالوا‏:‏ يا ربنا أصابنا البلاء بذنوب غيرنا فوعدهم الله أن يحييهم فقتلوا إلا من كان منهم مع بختنصر منهم دانيال وحنانيا وعزاريا وميشائيل، ثم لما أراد الله هلاك بختنصر انبعث فقال لمن في يده من بني إسرائيل‏:‏ أرأيتم هذا البيت الذي خربت والناس الذي قتلت منكم، وما هذا البيت‏؟‏ قالوا هو بيت الله وهؤلاء أهله كانوا من ذراري الأنبياء فظلموا وتعدوا فسلطت عليهم بذنوبهم وكان ربهم رب السموات والأرض ورب الخلائق كلهم يكرمهم ويعزهم، فلما فعلوا أهلكهم وسلط عليهم غيرهم فاستكبر وتجبر، وظن أنه بجبروته فعل ذلك ببني إسرائيل، قال فأخبروني كيف لي أن أطلع إلى السماء العليا، فأقتل من فيها وأتخذها لي ملكاً فإني قد فرغت من أهل الأرض، قالوا‏:‏ ما يقدر عليها أحد من الخلائق قال‏:‏ لتفعلن أو لأقتلنكم عن آخركم فبكوا وتضرعوا إلى الله تعالى فبعث الله عز وجل عليه بقدرته بعوضة، فدخلت منخره حتى عضت أم دماغه فما كان يقر ولا يسكن، حتى يوجأ له رأسه على أم دماغه فلما مات شقوا رأسه فوجدوا البعوضة عاضة على أم دماغه، ليري العباد قدرته ونجى الله من بقي من بني إسرائيل في يده، وردهم إلى الشام فبنوا فيه وكثروا حتى كانوا على أحسن ما كانوا عليه، ويزعمون أن الله سبحانه وتعالى أحيا أولئك الذين قتلوا فلحقوا بهم ثم إنهم لما دخلوا الشام دخلوها، وليس معهم من الله عهد‏.‏

كانت التوراة قد احترقت وكان عزير من السبايا الذين كانوا ببابل، فلما رجع إلى الشام جعل يبكي ليله ونهاره، وخرج عن الناس فبينما هو كذلك إذ جاءه رجل فقال له‏:‏ يا عزير ما يبكيك‏؟‏ قال‏:‏ أبكي على كتاب الله وعهده الذي كان بين أظهرنا الذي لا يصلح ديننا وآخرتنا غيره‏.‏ قال‏:‏ أفتحب أن يرد إليك قال‏:‏ نعم قال‏:‏ ارجع فصم وتطهر وطهر ثيابك ثم موعدك هذا المكان غداً فرجع عزير فصام وتطهر وطهر ثيابه ثم عمد إلى المكان الذي وعده، فجلس فيه فأتاه ذلك الرجل بإناء فيه ماء وكان ملكاً بعثه الله إليه فسقاه من ذلك الإناء، فمثلت التوراة في صدره فرجع إلى بني إسرائيل فوضع لهم التوراة، فأحبوه حباً لم يحبوا حبه شيئاً قط، ثم قبضه الله تعالى وجعلت بنو إسرائيل بعد ذلك يحدثون الأحداث، ويعود الله عليهم، ويبعث فيهم الرسل فريقاً يكذبون وفريقاً يقتلون حتى كان آخر من بعث إليهم من أنبيائهم زكريا ويحيى وعيسى عليهم السلام، وكانوا من بيت آل داود فزكريا مات، وقيل قتل وقصدوا عيسى ليقتلوه فرفعه الله من بين أظهرهم وقتلوا يحيى، فلما فعلوا ذلك بعث الله عليهم ملكاً من ملوك بابل يقال له خردوش، فسار إليهم بأهل بابل حتى دخل عليهم الشام، فلما ظهر عليهم أمر رأساً من رؤساء جنوده يقال له بيورزاذان صاحب القتل فقال له‏:‏ إني قد كنت حلفت بإلهي لئن أنا ظفرت على أهل بيت المقدس لأقتلنهم حتى يسيل الدم في وسط عسكري، إلا أن لا أجد أحداً أقتله فأمره أن يقتلهم حتى يبلغ ذلك منهم، ثم إن بيورزاذان دخل بيت المقدس فقام في البقعة التي كانوا يقربون فيها قربانهم، فوجد فيها دماً يغلي فسألهم عنه فقال‏:‏ يا بني إسرائيل ما شأن هذا الدم يغلي‏؟‏ أخبروني خبره‏.‏ فقالوا‏:‏ هذا دم قربان لنا قرّبناه فلم يقبل منا فلذلك يغلي ولقد قربنا القربان من ثمانمائة سنة، فتقبل منا إلا هذا فقال‏:‏ ما صدقتموني فقالوا لو كان كأول زمانننا لتقبل منا، ولكن قد انقطع منا الملك والنبوة والوحي فلذلك لم يقبل منا فذبح بيورزاذان منهم على ذلك الدم سبعمائة وسبعين روحاً، من رؤوسهم فلم يهدأ الدم فأمر سبعمائة غلام من غلمانهم، فذبحهم على الدم فلم يهدأ فأمر بسبعة آلاف من شيبهم وأزواجهم فذبحهم على الدم فلم يهدأ، فلما رأى بيورزاذان أن الدم لا يهدأ قال لهم‏:‏ يا بني إسرائيل ويلكم أصدقوني وأصبروا على أمر ربكم فقد طالما ملكتم في الأرض تفعلون ما شئتم قبل أن لا أترك منكم نافخ نار من ذكر ولا أنثى إلا قتلته، فلما رأوا الجهد وشدة القتل صدقوه الخبر فقالوا‏:‏ إن هذا دم نبي كان ينهانا عن أمور كثيرة من سخط الله تعالى فلو كنا أطعناه كنا أرشدنا‏.‏

وكان يخبرنا عن أمركم فلم نصدقه فقتلناه فهذا دمه فقال لهم بيورزاذان ما كان اسمه قالوا‏:‏ يحيى بن زكريا قال‏:‏ الآن صدقتموني لمثل هذا ينتقم ربكم منكم فلما علم بيورزاذان أنهم صدقوه خر ساجداً وقال لمن حوله‏:‏ أغلقوا ابواب المدينة، وأخرجوا من كان هاهنا من جيش خردوش، وخلا في بني إسرائيل ثم قال‏:‏ يا يحيى بن زكريا قد علم ربي وربك ما أصاب قومك من أجلك، ومن قتل منهم فاهدأ باذن ربك قبل أن لا أبقي من قومك أحداً إلا قتلته فهدأ الدم باذن الله تعالى، ورفع بيورزاذان عنهم القتل وقال‏:‏ آمنت بما آمنت به بنو إسرائيل، وأيقنت أنه لا رب غيره‏.‏ وقال لبني إسرائيل‏:‏ إن خردوش أمرني أن أقتل منكم حتى تسيل دماؤكم وسط عسكره، وإني لا أستطيع أن أعصيه قالوا له افعل ما أمرت به، فأمرهم فحفروا خندقاً، وأمرهم بأموالهم من الخيل والبغال الحمير والإبل والبقر والغنم فذبحها حتى سال الدم في العسكر، وأمر بالقتلى الذي قتلوا قبل ذلك فطرحوه على ما قتل من المواشي، فلم يظن خردوش إلا أن ما في الخندق من دماء بني إسرائيل فلما بلغ الدم عسكره، أرسل إلى بيورزاذان أن ارفع عنهم القتل ثم انصرف إلى بابل وقد أفنى بني إسرائيل أو كاد يفنيهم ونهى الوقعة الأخيرة التي أنزل الله ببني إسرائيل في قوله لتفسدن في الأرض مرتين فكانت الوقعة الأولى بختنصر وجنوده، والأخرى خردوش وجنوده وكانت أعظم الوقعتين، فلم تقم لهم بعد ذلك راية وانتقل الملك بالشام ونواحيها إلى الروم اليونايين، إلا أن بقايا بني إسرائيل كثروا وكانت لهم الرياسة ببيت المقدس ونواحيها على غير وجه الملك، وكانوا في نعمة إلى أن بدلوا وأحدثوا الأحداث فسلط الله عليهم ططوس المقدس ابن أسبيانيوس الرمي، فخرب بلادهم وطردهم عنها، ونزع الله عنهم الملك والرياسة وضربت عليهم الذلة والمسكنة، فما لبثوا في أمة إلا وعليهم الصَّغار والجزية وبقي بيت المقدس خراباً إلى خلافة عمر بن الخطاب فعمره المسلمون بأمره، وقيل في سبب قتل يحيى عليه السلام‏:‏ أن ملك بني إسرائيل كان يكرمه ويدني مجلسه، وأن الملك هوى بنت امرأته، وقال ابن عباس ابنة أخيه فسأل يحيى تزويجها فنهاه عن نكاحها، فبلغ ذلك أمها فحقدت على يحيى وعمدت حين جلس الملك على شرابه فألبستها ثياباً رقاقاً حمراً وطيبتها وألبستها الحلي، وأرسلتها إلى الملك وأمرتها أن تسقيه فإن هو راودها عن نفسها أبت عليه حتى يعطيها ما سألته فإذا أعطاها ما سألت سألت رأس يحيى بن زكريا، وأن يؤتى به في طست ففعلت فلما راودها قالت‏:‏ لا أفعل حتى تعطيني ما أسألك قال فما تسأليني قالت‏:‏ رأس يحيى بن زكريا في هذا الطست فقال ويحك سليني غير هذا‏.‏ قالت‏:‏ ما أريد غير هذا فلما أبت عليه، بعث فأتي برأسه حتى وضع بين يديه والرأس يتكلم يقول‏:‏ لا يحل لك فلما أصبح إذا دمه يغلي، فأمر بتراب فألقي عليه فرقى الدم يغلي فلا زال يغلي، ويلقى عليه التراب، وهو يغلي حتى بلغ سور المدينة وهو في ذلك يرقى ويغلي وسلط الله عليهم ملك بابل فخرب بيت المقدس، وقتل سبعين ألفاً حتى سكن دمه‏.‏